أين المؤرخون

TT

غريب هذا الأمر! كان في العالم العربي أبطال عسكريون كثيرون، لكن المؤرخين كانوا قلة. ووقعت على الأرض العربية معارك تاريخية هائلة، كُتبت عنها ألوف الصفحات، لكن المؤرخين ظلوا دائما من الأجانب. وأقصد، على سبيل المثال، معركة العلمين، بين رومل واثنين من كبار ضباط بريطانيا: ويفل ومونتغمري، الذي ارتبط النصر باسمه. لقد دار الكثير من معارك الحربين الأولى والثانية، في المشرق والمغرب، وفي الصحاري العربية. وبقينا بلا مؤرخين حقيقيين، إلا الرواة، أو بعض الخطابيين. ولذلك ظل الجزء الأكبر من تاريخنا، غربي المصدر، أو شرقيا أحيانا. والأكثر غرابة أن بلدا في حجم وتعداد مصر لم يظهر فيه سوى مؤرخين قلة، كان أبرزهم الراحل يونان لبيب رزق، الذي لولا أن قيض له منبر «الأهرام»، لبقي مجهولا لا يهتم بآثاره وأبحاثه أحد.

لم يتمكن المؤرخون العرب من الثبات أو الاستمرار، بسبب غياب المنهجية. التاريخ العربي - العربي خلط وشوه وأعمي وغفل، والتاريخ العربي - الاستعماري أو العربي - الإسرائيلي وقع في الخطابيات المنفرة، وتحول من بحث إلى فصاحات عمياء لا تُقرأ ولا يؤخذ منها حقيقة واحدة. وفي المقابل صدرت عن قضايانا ألوف الكتب التاريخية، وجميعها حافظت على الحد الأدنى من المستوى العلمي والبحثي، رغم ما حملت من السم في الدسم، مثل كتب برنارد لويس.

والمحزن أننا بدل أن نعثر في رجل متكرس مثل محمد حسنين هيكل على مؤرخ علمي يتحول إلى مرجعية في الغرب، حول الأستاذ هيكل خبرته النادرة وطاقته الفريدة وتجربته التي لا تشبهها تجربة أخرى، إلى حلقات شفهية نطاطة وانتقامات عابرة وتعليقات مأخوذة من كتب حديثة معلقة على رفوف جميع المعنيين أو المهتمين العرب.

ومؤسف أيضا أن رجلا في حجم هيكل وطاقته على المتابعة، لا يزال يبني كل ما يقول على أساس أن العرب شعب لا يقرأ، ويكتفي فقط بما يقال له في التلفزيون والإذاعات، نقلا - صريحا وواضحا - عن المصادر الإسرائيلية والأميركية والأوروبية. وعندما تكون هذه هي المصدر الوحيد، فما الحاجة إلى مؤرخ في خبرة وطاقة هيكل، ناهيك طبعا عن براعته التي تجعلك تصغي إلى ما تعرف وكأنه اكتشاف تسمعه للمرة الأولى.