أحلام جامحة

TT

في فيلم وثائقي بعنوان «ادعُ كي يعود الشيطان إلى الجحيم» تحدثت إحدى السيدات التي عانت أسرتها من ويلات الحرب الأهلية في ليبيريا عن حلم راودها في عام 2003 بأن شخصًا يحثها على أن تجمع النساء الخاضعات لكنيستها للصلاة من أجل السلام.

قالت «لقد كان حلمًا جامحًا».

بدا في حينها أن تلك الصلوات كانت خائرة أمام قوة تشارلز تايلور، ذلك الرئيس الطاغية، آنذاك، والمتمردين الوحشيين الذين يحاولون إبعاده عن السلطة. كان العنف شديدًا؛ بلغت فيه أعداد القتلى أرقامًا قياسية، كان الناس يموتون بعشرات الآلاف، وكان الأطفال يتضورون جوعًا، وأظهر الفيلم كيف بترت أطراف أولئك الصبية الصغار.

كان الفيلم بالنسبة لي أكثر من مأساة، لكن نهاية الأحداث في ليبيريا أثبتت القوة الكامنة للفرد العادي في مقابلة الكوارث.

أول ما أدهشني في الفيلم الذي يعرض في دور عرض خاصة في الولايات المتحدة الآن الطريقة التي تم بها تصوير ذلك الكم غير المعقول من الرعب الذي فرضته الحرب على المدنيين العزل: فقد عبّر بصدق عن مشاعر الرعب التي ارتسمت على المدنيين الفارين من مناطق القتال التي وصلت إلى شوارع المدينة، ومشاهد الأطفال يفرون مذعورين وهو يرتجفون من أصوات الانفجارات التي تحيط بهم من كل اتجاه، وكذلك صور المنازل التي التهمتها ألسنة النيران. تلك الصور لا تخلق سوى بيئة تعزز الإحساس بالعجز، لكن ليماه جيبوي، تلك المرأة التي حلمت حلمًا جامحًا، لم يكن ليصيبها ذلك النوع من الإحساس، ولذا يجب أن تكون قدوة لكل منا. عرض صانعو الفيلم، أبيجايل ديزني وجيني ريتكر، كيف استطاعت السيدة جيبوي أن توحد السيدات في ظل كنيستها اللوثرية للصلاة من أجل السلام وتنظيمهن في إطلاق مبادرة نسائية موسعة ضمت جميع النساء في الكنائس المسيحية ثم انضمت إليها بعد ذلك النساء المسلمات.

كانت تلك الجمهرة من النساء ترغب في وقف الجنون الدائر، وإنهاء القتل والتمثيل بالجثث، والتشويه، خاصة تدمير جيل من الأطفال. لقد أردن إنهاء عهد الاغتصاب كما كُنّ يرغبن في كل الأمور التي ينشدها المدنيون غير المقاتلين عندما يحتشد المحاربون - في الولايات المتحدة والشرق الأوسط وآسيا أو في أي مكان آخر - الذين يفسحون المجال للقنابل والأسلحة لتبدأ موجة القتل المسعورة. وما إن تواصلت جهود الليبيريات المسيحيات مع نظيراتهن من المسلمات حتى كانت هناك خشية من الجانبين بأن ينتج عن مثل هذا التحالف خلل في العقيدة، لكن العنف والقتل كان قد وصل إلى حد التطرف مما أسهم في تنحية تلك الهواجس الدينية بهدف توحيد الكلمة وإكسابها القوة. لم تقتصر تحركات النساء على الصلاة، فقد صلين، لكنهن خرجن من الكنائس والمساجد إلى الشوارع للتظاهر والاحتجاج وإدراج كل من يرغب في الانضمام إلى المناداة بالسلام. كانت مواردهن شبه معدومة لكنهن استطعن توفير عزيمتهن الصلبة ورغبتهن الكبيرة في إنهاء القتال. وقد تمخضت حركة النساء الأولى هذه عن «حركة العمل الجماعي الليبيري من أجل السلام».

كان مقر الحركة في البداية في سوق السمك المفتوح في العاصمة مونروفيا، وقد لقيت دعوة الحركة التي بثت عبر الإذاعة الكاثوليكية استجابة من آلاف النساء اللاتي تظاهرن في سوق السمك من أجل السلام، كانت السيدات يقمن كل يوم بالصلاة ورفع اللافتات والغناء والرقص وإنشاد التراتيل الدينية والدعاء من أجل السلام.

تزامنت دعوة النساء لطرفي النزاع بالبدء في مفاوضات سلام، مع جهود المجتمع الدولي لحث الجانبين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات للبدء في محادثات السلام.

لم يكن لأحد أو لشيء أن يتمكن من الوقوف في وجه تلك المظاهرات الحاشدة في السوق، فلا لهيب الشمس الحارقة ولا الأمطار الغزيرة والغضب الذي أبداه تشارلز تايلور الذي أثارت تلك الاحتجاجات شعوره بالحرج. وازداد الدعم الشعبي للحركة النسائية وفي النهاية وجد الرئيس تايلور وزعيم المتمردين نفسيهما مجبريْن على الجلوس معهن وسماع شكاواهن.

وقد أضحت القوة الأخلاقية التي تمتعت بها تلك الحركة، عامل حسم في إرغام طرفي النزاع على الجلوس إلى طاولة المفوضات والبدء في مفاوضات السلام. وفي نهاية الأمر تم عقد مباحثات السلام في أكرا، وعندما بدا أن المفاوضات على وشك الانهيار قامت جيبوي ومعها ما يقرب من 200 سيدة أخرى بتنظيم اعتصام في مكان المحادثات مطالبات الجانبين بالبقاء إلى حين التوصل إلى اتفاق.

تم التوصل إلى سلام مبدئي وخرج الرئيس تايلور إلى المنفى في نيجيريا، واستمرت النساء في نشاطهن، ومنذ ثلاثة أعوام وتحديدًا في السادس عشر من يناير (كانون ثاني) من عام 2006 أدت إلين جونسون سيرليف القسم الرئاسي كأول رئيسة لدولة أفريقية؛ تتويجًا لتلك الجهود التي قادتها الأمهات والزوجات والأخوات والخالات والجدات من أجل السلام.

تعيش ليبيريا حالة هدوء مؤقتة الآن. لكن فيلم «ادعُ كي يعود الشيطان إلى الجحيم»، يذكرنا بالقوة الهائلة التي يملكها الفرد العادي إذا ما توافرت لديه الرغبة في العمل بشجاعة والتزام صادق.

* خدمة «نيويورك تايمز»