دروس من دافوس!

TT

ذهبت إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية، حيث كانت الجبال والطرقات مغطاة بالثلوج، ولكن القضايا التي كان عليه بحثها كانت ساخنة للغاية. وكان طبيعيا أن تكون الأزمة الاقتصادية العالمية هي جوهر المناقشات التي جرت بين رؤساء دول وحكومات ووزراء ورؤساء بنوك وشركات ومتخصصين وأكاديميين، وبالطبع جمع هائل من رجال الإعلام الممثلين لكل الثقافات والشعوب. ولكن المنتدى سار خطوة إضافية، فلم تكن قضيته هي دراسة الأزمة وإنما تشكيل العالم الذي سوف يأتي بعدها؛ وكما قال قائل في المنتدى إن أوقات الاستقرار والرخاء لا تستمر إلى الأبد، وكذلك فإن أوقات العسر والأزمات لا تستمر إلى الأبد هي الأخرى.

وكان هذا التوجه صحيحا تماما، لأنه وفق تعريف «الأزمة» فإنها لحظة فارقة لا يكون الحال بعدها مثلما كان قبلها، وويل لمن لا يعرف العالم الجديد الذي تكون الساعة هي لحظة المخاض التي يولد فيه. وربما كانت هذه هي نقطة الاتفاق الأولى في دافوس، وهي أن الأزمة الراهنة سوف تغير العالم كله كما هو الحال في كل لحظات التغيير الكبرى في التاريخ حيث لا تبقى التكنولوجيا على حالها، ولا تستمر علاقات القوى كما هي، ولا تبقى القواعد والقيود على ما كانت عليه. وفيما يخصنا، فإن واحدة من أولى ضحايا الأزمة الحالية، هو الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للطاقة العالمية؛ وربما سمعنا مثل هذا الكلام كثيرا فيما سبق، وتعلمنا كيف ينتهي تماما مع أول انهيار في الأسعار، حيث تكون كل مصادر الطاقة الأخرى أكثر تكلفة. ولكن هذه المرة يوجد تصميم كبير، ليس فقط لأن التكنولوجيا باتت متوافرة وأرخص سعرا، وإنما لأن القرار لم يعد اقتصاديا فقط، وإنما سياسيا كذلك. وفي حزمة السياسات الحالية لباراك أوباما فإن الصناعات التي سوف يتم تقديم العون لها سوف تكون تلك الأقل اعتمادا على النفط أو مستغنية عنه كلية، أو تلك التي تكون صديقة للبيئة، أو التي تضع البنية الأساسية كلها على أسس تكنولوجية جديدة. ولمن يعرف تاريخ الأزمات الاقتصادية العالمية، سوف يجد أنها جميعا انتهت ساعة انتقال التاريخ إلى مرحلة أخرى نتيجة ميلاد حزمة كبيرة من التكنولوجيات التي لم تعرفها البشرية من قبل، ولكنها عندما عرفتها فإنها كانت قد تغيرت بفعل تغير الزمان والمكان.

والقضية هنا بالنسبة للعرب ليس فقط أن منتجا عربيا أساسيا سوف يتأثر بهذه الأزمة، وإنما أن العالم العربي كله لم يتوفر له استعداد للتعامل مع عالم لا يكون النفط جزءا أساسيا منه. وعلى أي الأحوال فإن ذلك لن يكون هو التغيير الوحيد، وربما كانت واحدة من أكثر اللحظات دهشة هي تلك التي نجمت عن قول جوردون براون رئيس وزراء بريطانيا عن أن الأزمة تدفع في اتجاه التحول من سيادة الدولة إلى سيادة العالم. وربما يبدو الأمر بسيطا وغير قابل للتطبيق في ضوء التمسك المعروف لبريطانيا العظمى بسيادتها ورموزها حتى أنها لا تزال متمسكة بالجنيه الإسترليني، كما أنها كانت دائما آخر الدول في عمليات الانتقال من مرحلة إلى أخرى في نمو وانتقال الاتحاد الأوروبي. ولكن ذلك كان قول أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية التي وجدت أن المؤسسات الاقتصادية العالمية الراهنة لم تعد تلائم حالة «العولمة» والتفاعلات المالية والاقتصادية العالمية الراهنة.

المعضلة كما هو معروف أن القول سهل، والشيطان دائما ما يكمن في التفاصيل، فانتقال السيادة من الدول إلى العالم ربما يعني ترجمة جديدة لتوازن القوى العالمي الذي يعطي لمجموعة الدول السبع، وربما الآن الدول العشرين التي تملك أكثر من 80% من الناتج المحلي العالمي مميزات خاصة في التصويت والتمثيل، بينما تبقى بقية العالم أسيرة العزلة والحرمان من المشاركة في اتخاذ القرار. ولكن هذه الدول ذاتها ليس لها صوت ولا مشاركة في لحظة الأزمة الراهنة، بل إنها أكثر المتضررين منها، وهكذا قد يكون مكتوبا عليها الحرمان في الحاضر وفي المستقبل حتى ولو كانت تمثل الأغلبية الساحقة من سكان العالم، ويصبح السؤال هل تكون واحدة من نتائج الأزمة الراهنة أن يتولد نظام آخر للهيمنة والسيطرة باسم العالمية ومصالح العالم هذه المرة ؟.

ولكن إذا كان ذلك فسوف يكون إعادة صياغة للعالم، ومولد نظام عالمي آخر غير ذلك الذي عشنا في ظله لسنوات طويلة، فإن الدولة ذاتها سوف يعاد صياغتها مرة أخرى. وكم كان مدهشا أن فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي كان على رأس المحذرين من عودة سيطرة الدولة على الاقتصاد؛ ولكن أحدا لم يكن يتحدث عن السيطرة وإنما عن دولة جديدة لها القدرة على المراقبة والمتابعة دون إخلال بحركة قوانين السوق. مثل ذلك يحتاج لموظفين من نوع جديد يختلف تماما عن البيروقراطية الراهنة التي هي أقل كفاءة وقدرة وتمويلا وثقافة ومعرفة من العاملين في القطاع الخاص، وتجد صعوبة بالغة في التعامل مع المنظمات والمؤسسات الدولية.

هذا عالم جديد من الاعتماد المتبادل الذي لم تعرفه البشرية من قبل، ومن المرجح أن تكون الصين هي التي سوف تقدم طوق النجاة للولايات المتحدة الأمريكية من خلال شراء أصول الخزانة الأمريكية لأن الاقتصاد الصيني يعتمد على السوق الأمريكية كما لم يعتمد اقتصاد على سوق من قبل. ولا يمكن بحال تخيل شكل العلاقات الأمريكية – الصينية بعد ذلك، ولكن ربما نشهد علاقة تحالف لم تتخيلها أيا من التوقعات العالمية التي ظنت دائما أن هذه العلاقات توجد في كتاب الخصومة والعداء وليس في ملفات التعاون والتكامل والاعتماد المتبادل.

المسألة هكذا ببساطة هي أن هناك أزمة اقتصادية عالمية، وقضية احتباس حراري عالمية، وقضايا طاقة وغذاء عالمية هي الأخرى؛ وكل ذلك لا يمكن التعامل معه بدون العالمية أيضا. ولكن هذه العالمية إما أن تقوم بطريقة ديمقراطية تشارك فيها كل دول العالم، أو أنها سوف تقوم على الأرجح من خلال طريقة أوليجاركية تعطي لقلة القدرة على تقرير مصير العالم. والسؤال الملح علينا في العالم العربي هو كيف سنتعايش أو نعيش مع ذلك كله، وكيف سيمكن لاقتصادنا، ووسائل حكمنا أن تتعامل مع هذه الأوضاع الجديدة؟

وبالتأكيد فإن هناك إجابة شائعة في العالم العربي تقوم على الانتظار، وسوف تأتي الإجابة العربية بعد أن تستقر كل أمور العالم، ولكن ذلك لا يحرمنا من فرص فقط إنما يجعل التكلفة السياسية والاقتصادية حتى الاستراتيجية فادحة للغاية. وبالطبع فإن هناك الحل الراديكالي الذي يضيف حفنة جديدة من الضجيج والاحتجاج والدعوة اللحوحة على ضرورة قيام نظام عادل، وهو ما لم يحدث في التاريخ أبدا أن تقوم النظم العادلة لأن طائفة من الدول طالبت بقيام نظام عادل!. والحل عندنا يوجد لدى المعتدلين في العالم العربي الذين عليهم ممارسة اعتدالهم من خلال عملية إصلاحية واسعة لزيادة مرونة مجتمعاتهم وقدراتها على التلاؤم والتكيف مع تغيرات جوهرية في البنية السياسية والاقتصادية العالمية.

ولمن لا يذكر الأوضاع في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، فإن ما جرى فيها كان محصلة حركة القوى والعناصر الثورية التي ولدتها الثورة الفرنسية والحركات الراديكالية المختلفة، وحركة المعتدلين أو المحافظين الذين خلقوا منظومة للنظام والقانون من ناحية، وتابعوه بإصلاحات كبرى استفادت من تكنولوجيات الثورة الصناعية، ومعها التجديد في الحياة السياسية في الدول المختلفة بحيث أتاحت للطبقة العاملة أمة تصبح جزءا منها، وأحزابا عمالية تعبر عن مصالحها، ونقابات تعدل من أجورها، وصحافة وحياة مدنية تتيح فضاء سياسيا رحبا للجميع.

هل نستطيع أن نفعل شيئا من هذا في العالم العربي؟ فبعد زوال إدارة جورج بوش ونهاية مشروع الشرق الأوسط الكبير، لم يبق هناك مفر من تطبيق ما ادعيناه طويلا من أن الإصلاح عملية عربية ذاتية لا تنتظر دروسا ولا توجيهات من أحد. الإجابة على هذا السؤال لا تستطيع الانتظار طويلا، وإما أن نقدم الإجابة، أو أنها على الأرجح سوف تقدم لنا مرة أخرى!!.