محفوظ.. رحيل بقية العلماء!

TT

إذا لم يُحسب لمدينة الكاظمية، الشاخصة على حافة دجلة اليمنى، فضلا في الثقافة والمعرفة، فيكفيها أنها أنجبت: عبد المحسن الكاظمي، وهبة الدين الشهرستاني، وجواد علي، وعلي الوردي، وكامل مصطفى الشيبي، وجعفر السعدي (أحد أبرز وجوه المسرح العراقي)، وحسين محفوظ، الذي رحل قبل أسبوعين، وهو يتطلع لإعادة فتح مجلسه الثقافي كل ثلاثاء. محفوظ أشهر من التذكير بسيرته الذاتية، فأهل التاريخ، والتراث، وحساب السنين، والأنساب، من عراقيين وعرب ومستشرقين، يحفظون لهذا العالم منزلته وقدحه المعلى في المعرفة، حتى نال أفخر الألقاب: أستاذ المستشرقين، والأستاذ الأقدم، وشيخ التراثيين، والمرجع الكبير بالعراق، والمصدر الكبير، وكل هذا وغيره موثقا لديه في «سجل خشبي رقدت فيه شهادات تقدير من علماء وأساتذة في العالم، مزوقة بتواقيع بلغات مختلفة، تشيد بطاقة محفوظ الحضارية في علوم التراث»(حميد المطبعي، العلامة الدكتور حسين علي محفوظ). هذا، ولكثرة تأليفه وإنشائه ضاع إحصاء تركته، فالمعدود منها أربعمئة في: التراث، والتاريخ، والفلك، والمعاجم، واللغات.

كانت كثرة التعازي في وفاته من قبل السياسيين والمتنفذين مثيرة للانتباه، من وزير الثقافة إلى وزير الكهرباء، ورؤساء القوائم الانتخابية، ذلك إذا تفهمنا واجب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في تقديم التعازي الرسمية. بل يغلب على الظن أن عددا من المعزين السياسيين لا يعلم مَنْ هو محفوظ، وأين يقيم، وما عاناه في أواخر حياته! لكن، يبقى الأمل في إطلاق اسمه على مؤسسة تليق به، وتنفيذ وصيته: أن تكون مكتبته للناس عامة! كي لا يكون مصيرها مصير مكتبة الأب أنستاس الكرملي (ت1947)، لا يُعرف الطريق إليها في الموصل، ومكتبة النحوي هاشم الطعان (ت1981) عندما اشترتها جامعة الكوفة، في العهد السابق، ولم يحصل ولده على الأربعمئة دولار، التي تعهدت بها عمادة الجامعة آنذاك، وأكثر من هذا، لم تفِ له بشرط البيع، وهو أن تحفظ في خزانة تحمل اسمه! لا نستبق الحوادث، فلعلَّ لمحفوظ حظا في ترجمة الاهتمام بوفاته إلى تحقيق وصيته، حيث أظهر المهتمون أنهم حفظة لعهد علماء العراق وأدبائه! فالبلاد كما نرى ونسمع امتلأت بأسماء أخذت تُطلق على مؤسسات أكاديمية وقاعات علمية وشوارع من دون حساب، ولا تحسب إلا بالعدوى من السابقين، فلكثرة الأنصاب والجداريات والعناية بمتانتها شغل البعض أمر زوالها إن سقطت سلطة أصحابها! لكنها ساعات وخلت بغداد منها، وغدت كما ترون «نسيا منسيا»! فهل سيتعظ الحاضرون مما آلت إليه جداريات وأضرحة الماضين!

ينتظر من بغداد تخليد محفوظها، وغيره من علمائها، مثلما خلدت القاهرة محفوظها، بنصب وسط القاهرة ومؤسسات أدبية، بإطلاق أسمائهم على المؤسسات العلمية، وهي من حقهم وليس من حق غيرهم. فالمدن والمؤسسات الدينية والفقهية، وصروح المكاتب السياسية، ليست قليلة حتى تطغى أسماء رموزها على الجامعات وقاعاتها، بل ويُختار لرئاستها أصحاب الشهادات الحوزوية! ليس استخفافا بتلك الشهادات وحملتها، لكن في المولد من الأمثال: «كلٌّ يحتطب في حَبلهِ»! لقد ذاع اسم العراق بالعلامة محفوظ، وأقرانه من العلماء، في شتى المؤسسات الدولية، حتى ربطت تلك المؤسسات حاضر العراق بماضيه السومري والبابلي والجزء المضيء من زمنه العباسي، يوم كانت بغداد قبلة الدارسين، وغدا التبغدد قرينا للتحضر. كان هذا بفضل قوة مؤسسات دار السلام وتفوق أساتذتها، من أسلاف محفوظ وأترابه، لا بفضل أهل الشهادات الزور، والناطين إلى المنصات العلمية بألقاب لا يستحقونها. لقد هالني مشهد أحدهم، وهو يُقدم نفسه مرشحا عن منطقته، بأنه مارس التدريس في الجامعات الأوروبية، والكل يعلم أنه كان مؤسسا لجمعية في لندن اغتنى من ورائها! كما هالني تفاخر وزير المعارف بتعيين عشرات الدعاة الدينيين في وزارته، واعتبره رصيدا لآخرته، وكأن أهل العراق أهل شرك! ومسؤول آخر تفاخر بفتح المدارس الدينية، والبلاد ليست ضنِّينة بها!

على أية حال، سمعنا الأستاذ الأقدم، بصوته، يتحدث عن مدينته الكاظمية بأنها كانت دار وئام، بين ضفتي دجلة السُنيَّة والشيعية، فدفينها عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت290هـ)، الذي رغب في ترابها، مجاورة للإمام موسى الكاظم (ت183هـ)، وأن الخليفة المتشيع الناصر لدين الله (ت622هـ) قرأ فيها كتاب «الفضائل» لابن حنبل (ت241هـ). لكل هذا أخذني الزهو وأنا أجد اسمي بعد اسم حسين محفوظ ومحمد مكية، وغيرهما من الأكابر، في الاحتجاج على محاولة تشويه عمارة الحضرة الكاظمية، بمبادرة من وزير الثقافة الأسبق مفيد الجزائري. وكم تبدو عبارة محفوظ التالية صادقة ومحتجة على واقع الحال: «تحت كل شبر من أرض العراق حاضرة وحَضارة، وفوق كل شبر مدينة ومَدنية»!

[email protected]