منظمة التحرير والمؤامرة الجديدة

TT

ما أعلنه رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل، من أنه هو وحلفاؤه عقدوا العزم واتخذوا قرارا بإنشاء مرجعية فلسطينية جديدة على أنقاض منظمة التحرير، ما كان من المفترض أن يفاجئ الفلسطينيين والعرب، فهذا التوجه ليس جديدا ولا طارئا ولا نتيجة للحرب العدوانية التي شنها الإسرائيليون على غزة، بل إنه بدأ منذ اللحظة التي ظهرت فيها هذه الحركة، حركة المقاومة الإسلامية، التي حاورها ياسر عرفات على مدى سنوات طويلة قبل عودته من المهاجر القسرية إلى وطنه وبعد ذلك .

آخر محطة على طريق إنشاء هذه «المرجعية» البديلة لمنظمة التحرير لم تكن الاجتماع الذي عقدته ثماني فصائل فلسطينية في دمشق، ست منها وهمية ومجرد انشقاقات عن انشقاقات، والذي سبقه اجتماع مع الرئيس السوري بشار الأسد وتبعته جولة قادت خالد مشعل أولا إلى الدوحة ثم إلى طهران، وإنما ذلك المؤتمر الذي انعقد في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي 2008 تحت «لافتة» حق العودة، وثبت أن هدفه الحقيقي هو شطب المنظمة الحالية المعترف بها من قبل نحو مائة وعشرين دولة من دول العالم والتي اتخذ العرب في قمة الرباط عام 1974 قرارا ملزما بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

قبل هذا المؤتمر، الذي انعقد في دمشق في يناير (كانون الثاني) في العام الماضي والذي شكل لجنة لإقامة المنظمة البديلة لمنظمة التحرير التي أعلن عنها خالد مشعل بعد لقاء مع الرئيس بشار الأسد وعشية جولة قادته أولا إلى الدوحة ثم إلى طهران «الثورة»، كانت «حماس» قد قامت بانقلاب يونيو (حزيران) الذي قامت به في غزة، وشطرت الوضع الفلسطيني سياسيا وجغرافيا إلى شطرين، إمارة غزة الإسلامية التي أقيمت وفق المواصفات الخمينية في مواجهة دولة الضفة الغربية والسلطة الوطنية في رام الله.

لقد كان واضحا منذ أن انطلقت حركة «حماس» في عام 1987 أن الهدف هو إلغاء منظمة التحرير وليس الانضواء تحت جناحها كما فعلت كل الفصائل الفعلية الأخرى، وأن المطلوب هو الانفراد بالساحة الفلسطينية مع «ديكور» تعددي باهت لا يقدم ولا يؤخر وتجيير كل شيء لحساب دولة «الولي الفقيه» ولـ «فسطاط الممانعة» الذي ضم إلى جانب إيران كلا من سوريا على نحو معلن وقطر على نحو فعلي ولكن غير معلن وحزب الله وحركة المقاومة الإسلامية ومعها العقد التنظيمي الوهمي الذي تقوده وتنطق باسمه.

إن هذه الأمور غدت واضحة ومعروفة ومؤكدة وأن المفترض أن كل معنيٍّ لديه ذاكرة، غير مؤجرة لا لـ «فسطاط الممانعة» ولا لأحد نزلائه، وبخاصة الذين دأبوا على عزف «مزاميرهم» عن بعد من بعض العواصم الأوروبية المريحة والجميلة، يعرف أن هذه الظاهرة الدمشقية، ظاهرة السعي لإنشاء مرجعية جديدة غير منظمة التحرير، قد كان هناك مثلها في فترة ما بعد حصار ياسر عرفات في طرابلس اللبنانية حيث بعد خروجه من ذلك الحصار توجه رأسا كما هو معروف إلى مصر التي كانت لاتزال تقضي العقوبة التي فرضتها عليها قمة بغداد الشهيرة لتوقيعها معاهدة كامب ديفيد مع الدولة الإسرائيلية.

حتى خلال ذلك الحصار «الأخوي» الذي فرضه «الأشقاء» على عرفات في طرابلس والذي شاركت فيه إسرائيل من البحر كانت المحاولات لإنشاء منظمة تحرير بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية التاريخية قد بدأت بالسعي لإقصاء الرئيس الفلسطيني الراحل وتنصيب آخر محله لكن تلك المساعي لم يحالفها النجاح نظرا لاعتذار بعض الذين جرت مفاتحتهم بهذا الأمر، ومن بينهم خالد الحسن (أبو السعيد) وخليل الوزير (أبو جهاد) رحمهما الله، وإصرارهم على أن زعامة (أبوعمار) هي الزعامة الشرعية وأنها جريمة ما بعدها جريمة أن يُستهدف الفلسطينيون بوحدتهم بعد صمودهم البطولي في بيروت في مواجهة الجيش الإسرائيلي لنحو ثلاثة أشهر.

كانت قمة «فاس» الثانية التي انعقدت في سبتمبر (أيلول) عام 1982 وحضرها ياسر عرفات، الخارج توا من بيروت، قد اتخذت قرارات في غاية الأهمية بالنسبة للعملية السلمية، وهذا دفع الذين يرون أن من حقهم احتواء الحالة الفلسطينية كما احتووا الحالة اللبنانية والذين كانوا يريدون أن يضطر الرئيس الفلسطيني الراحل إلى اللجوء إلى دمشق بعد الخروج من بيروت إلى افتعال ذلك الانقسام في حركة «فتح» في عام 1983 الذي بدأ في منطقة البقاع، بعد اغتيال القائد العسكري لهذه الحركة سعد صايل (أبو الوليد)، وانتقل بعد ذلك إلى طرابلس في الشمال اللبناني فكان ذلك الحصار «الأخوي» الذي جمع الأشقاء إلى جانب القوات الإسرائيلية.

وحقيقة أنه كان من الممكن أن تنجح تلك المحاولة المبكرة لإنشاء منظمة موازية أو بديلة لمنظمة التحرير لو أن الأردن لم يبادر وبسرعة لاستضافة دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في عمان في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1984 رغم التهديد والوعيد الذي أُرسل إلى الأردنيين عبر الحدود، وأيضا لولا موقف غالبية الدول العربية ولولا الموقف الحازم والحاسم الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي السابق واتخذته الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية.

الآن تتكرر تلك المحاولة المبكرة مرة أخرى فحركة «حماس» أساسا ضد وجود منظمة التحرير، وهي كانت رفضت رغم الإغراءات التي قدمها ياسر عرفات الدخول إليها والمشاركة فيها، ثم وأن الساعين لوضع الورقة الفلسطينية في جيوبهم وجدوا أنه لابد من التحرك بسرعة ولابد من التعامل مع مأساة غزة على أنها انتصار إلهي للإعلان عن إقامة هذه المنظمة البديلة التي تم الإعلان عنها لمواجهة التحرك الأميركي، الذي يبدو أنه جديٌّ هذه المرة، بواقع فلسطيني جديد عنوانه أن «المنظمة» السابقة لم تعد قائمة وأن هناك منظمة بديلة وأن عملية السلام قد ماتت وأنه لابد من عملية سلام جديدة.

فهل ستنجح هذه المحاولة حيث فشلت المحاولة المبكرة السابقة وهل أن منظمة التحرير التي تجاوز عمرها الأربعة والأربعين عاما والتي تعترف بها أكثر من مائة وعشرين دولة من دول العالم ستنهار ويصبح الفلسطينيون بدون ممثل شرعي ووحيد في فترة من أخطر الفترات التي مرت بها قضيتهم..؟! .

الواضح أن الذين وقفوا وراء خالد مشعل ودفعوه إلى هذه المغامرة المكلفة لم يحسبوا حساباتهم جيدا، فقد اتضح أن هناك رفضا لهذه الفكرة من قبل حتى بعض أوساط «حماس» في الداخل ومن قبل كل الفصائل الموجودة فعلا في الساحة الفلسطينية وعلى أرض الواقع، كما أن هناك رفضا عربيا، باستثناء الاستثناءات المعروفة، لتغييب منظمة التحرير في وقت بات فيه الشعب الفلسطيني في أمس الحاجة إليها، ورفضا دوليا يشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي الدول الفاعلة كالصين وروسيا.

إنه من المستحيل أن تمر هذه المؤامرة التي إن هي نجحت فإنها ستحقق بالإضافة إلى انقلاب عام 2007 وإقامة «دوقية» غزة الإسلامية الأُمْنية الغالية لليمين الإسرائيلي الذي يرفض عملية السلام ولا يريدها والتي ستحقق لإيران هدف التخلص من العملية السلمية التي تشكل خطرا قاتلا على تطلعاتها في هذه المنطقة.. إنه من غير المتوقع أن تنجح هذه المحاولة الجديدة، فالفلسطينيون إن ليس كلهم فبغالبيتهم ضدها والدول العربية المؤثرة والفاعلة لا يمكن أن تتخلى عن منظمة التحرير وبخاصة والوضع الفلسطيني يمر بهذا المنعطف الخطير، وأيضا فإن دول العالم التي تعترف بهذه المنظمة وبالسلطة الوطنية المنبثقة عنها لا يمكن أن تتخلى عن هذا الاعتراف لبديل يجلس في حضن إيران الخمينية.