الليكودية الفلسطينية

TT

لم يعد خافيا أن حرب غزة، أضعفت دعاة السلام في الجانبين العربي والإسرائيلي على السواء. ففي إسرائيل تشير استطلاعات الرأي إلى أن انتخابات العاشر من فبرايرالحالي ستأتي بحكومة تجمع الليكودي نتنياهو مع العنصري المتطرف ليبرمان. وهي خلطة مثالية، لإعطاء دفع غير مسبوق للمتشددين العروبيين والإسلاميين أيضا. وكانت حرب غزة بما انطوت عليه من فجور وتفظيع، قد جعلت السيد حسن نصر الله يرفع الصوت مؤكدا أن الاستراتيجية الدفاعية الفاعلة في لبنان باتت معروفة وواضحة - ويقصد بذلك المقاومة - بالنظر إلى ما ترتكبه إسرائيل في غزة. وهو أمر كان حزب الله لا يجرؤ على التصريح بمثله، في وجه خصومه من فريق 14 آذار، ويفضل المداراة وانتظار نتائج طاولة الحوار، درءا للخلافات الداخلية.

ورغم أن واحدنا يتمنى أن يكون مخطئا في قراءته لما يحدث، إلا أن الباحثين والخبراء الغربيين، وهؤلاء للأسف باتوا أكثر مصداقية من إعلامنا المنقسم بين مصفق لـ«المعتدلين» ومطبل لـ«الممانعين»، لا يخفون تشاؤمهم المرّ من نتائج سياسات فاشلة لأكثر من جهة على رأسها إسرائيل والولايات المتحدة للهروب من سلام كان ممكنا ذات يوم. الرجل الذي كان مستشارا للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لشؤون الشرق الأوسط روبير ماليه، لا يخفي مرارته، لأن السنوات العشر الأخيرة ارتكبت خلالها الأطراف جميعا أخطاء كثيرة. وقد بنت جهات عديدة سياساتها بالرهان على إضعاف حماس، والنتيجة ان حماس كانت كلما ازداد الحصار حولها تزداد ذراعها العسكرية قوة. ويسخر هذا الرجل العارف بالشرق الأوسط من مقاطعة حماس، معتبرا أن «لا مشكلة يمكن أن تحلّ ما دمنا نتصرف وكأنما حماس غير موجودة... وبما أن الأوروبيين لا يريدون إسقاط حماس عن لائحة الإرهاب، فليتفاوضوا معها كما فعلوا مع منظمة التحرير في ما مضى».

باحث مشهود له في مركز الأبحاث الوطني الفرنسي، جان فرانسوا لوغران، وهو أحد أهم المتخصصين في القضية الفلسطينية، في مقابلة مع مجلة «الاكسبرس» عنوانها «حماس ليست ألعوبة»، يحذر من الاستمرار في اعتبار حماس مجرد دمية أو خلية إرهابية، ويرى ان حماس لها جذور شعبية في المجتمع الفلسطيني وجذور تاريخية دينية ضاربة في أعماق عربية تمتد إلى مصر والأردن، من خلال ترعرها في أحضان الإخوان المسلمين في البلدين. ويذكّر لوغران بأن حماس هي وليدة حركة يعود تاريخها إلى عشرينات القرن الماضي، وليست بنت اليوم.

ولا تتردد بعض المقالات والدراسات الفرنسية في تحميل إسرائيل مسؤولية اللعب على التناقضات الفلسطينية بالعزف تارة على أوتار التطرف وتارة أخرى على قيثارة السلام، وفي مقال طويل نشرته مجلة «الاكسبرس» تحت عنوان «حماس عدو أليف لإسرائيل» سردت فيه تاريخا من المفاوضات السرية والعلنية، بين حماس وإسرائيل بالوقائع والأسماء شارك فيها مصريون وأتراك وسويسريون ونرويجيون وايطاليون أيضا. فقد «دفعت إسرائيل - بحسب هذه المقالة - بحماس إلى الأمام مرات عديدة»، قبل ان تعلن شروطها التعجيزية على «التنظيم الإرهابي» كما تدّعي، وتقاتله كأنه عدو لا يمكن تدجينه. ولا يخفي مراسل القناة الفرنسية الثانية، الإسرائيلي - الفرنسي شارل اندرلان مخاوفه من أن تكون «إمكانية الوصول إلى حل الدولتين المنشودتين في طور الأفول الأخير. وسيصبح ذلك أكثر وضوحا خلال الشهور المقبلة».

كل هذه التحاليل لا تأتي من فراغ، فما يزيد على 82% من الإسرائيليين عند إعلان وقف إطلاق النار على غزة، وبعد انكشاف مجازر هذه الحرب وأهوالها، أبدوا تأييدهم لها. وكان دعاة السلام الإسرائيليون حين يتظاهرون اثناء الغارات القاتلة يبدون كما لو أنهم بقايا قبيلة منقرضة من الهنود الحمر ولا يلقون من المارة سوى الشتائم والقذف بالفاكهة العفنة. وقد يقول كثير من العرب ما الفرق بين زعماء السلام الإسرائيليين الذين شنوا حربين دمويتين خلال سنتين على غزة ولبنان والمتشددين العنصريين الذين سيصلون إلى الحكم؟ وهل وفر الحمائم سلاحا لم يستخدموه كي نخشى استخدامه من الصقور؟ وهذا صحيح. فحتى ترحيل فلسطينيي 48 الذي يهدد به الأشد عنصرية في إسرائيل اليوم، كنا نسمعه على لسان «القوم المسالمين».

وبما أن اللعبة تزداد صعوبة، والأبواب تتهيأ للانغلاق، فإن كاتبا معروفا في صحيفة «لوفيغارو» يدعي الكسندر إدلير، يتساءل: لماذا لا ينظر إلى حماس على انها «ليكود» فلسطيني؟ وقد يكون رأي إدلير ذا وجاهة، لحظة يصل المتطرفون الإسرائيليون إلى الحكم، وهذا قد لا يتطلب أكثر من أيام قليلة. فلو تجاوزنا تعنت الأطراف كلها، ومساومات الراهن، ونظرنا قليلا إلى الأمام، لرأينا أن حماس التي بات اسمها على كل لسان لا يمكن ان تبقى مهمشة، في الوقت الذي ينظر العالم كله إلى ما تقبل به وما ترفضه، كي تحلّ قضية تجويع وتعذيب مليون ونصف فلسطيني. وبصرف النظر عن رأيك في حزب الله، فإن حشر هذا الأخير في الزاوية، والتضييق عليه سياسيا بعد حرب تموز 2006 كلف اللبنانيين سنتين جحيميتين. وكان الأجدى توفير هذا الوقت الضائع والوصول إلى حلّ وسطي كالذي نتج عن اتفاق الدوحة بدون كثير مماطلة. وقصة حزب الله لا تختلف في جوهرها، عربيا، عن حكاية حماس التي لا ترضي جيرانا أو تريح أشقاء، لكن التفاهمات الوسطية أقل كلفة من الصدامات الدموية. وكل حرب إضافية في هذه المنطقة تأخذنا إلى مزيد من الانقسام والشرذمة. وأقسى ما كان يمكن لمشاهد رؤيته منذ ايام على شاشة «إخبارية المستقبل» مبارزة بين متحاورين عربيين «معتدل» و«ممانع» يحاول كل منهما ان يثبت للآخر بأن حليفه العربي هو الأضعف. وتبين بعد طول نقاش أن «الممانعين» و«المعتدلين»، تتقلص أدوارهم وتتقزم حتى يكاد الصوت العربي يتلاشى كليا. ولعله بات من مصلحة الطرفين المتناحرين، ايجاد حلول تنقذهم من وحل الاضمحلال. فالتطرف لا محالة قادم، وإن كان ليبرمان ونتنياهو هما الاختيار الإسرائيلي الشعبي، فإن العرب جميعا أمام اختبار جديد عليهم التعامل معه بإبداع وكثير من الخيال الخلاّق، بالخلط بين «الاعتدال» و«الممانعة» وإخصاب ما هو أكثر ديناميكية وأقل خشبية.

[email protected]