ثلاث فقط !

TT

لي صديق مهووس بالتحليل والتنظير وقراءة ما بين السطور، ومحاولة تفسير «الأمور» ومن السهولة أن تصله رسالة بالهاتف المحمول ولا يكون بها أكثر من كلمة شكرا مثلا ولكنها مصحوبة بثلاث نقاط بعدها فيصبح حاله حالا ويبدأ في تأويل وتفسير معنى النقاط الثلاث و«مغزاها» والبعد «غير المعروف» لها، وأنا لا أملك سوى النظر إليه مشدوها بقدرته على هدر تفكيره بهذا الشكل ولا أملك سوى الابتسام في وجهه متألما. وصديقي ليس بعيدا عن الحالة العامة للشارع العربي، بل أكاد أجزم أنه هو شخصيا الذي ساهم في «سفلتة» ورصف هذا الشارع الغلبان. فإذا ما جلست مع اثنين من اللبنانيين ستكون نظرية المؤامرة ثالثتهما، فكل شيء بالنسبة للبنانيين يدور حولها، فثقب الأوزون تم ثقبه لتذوب جبال الثلج في نقرا وفاريا فتنخفض أسعار العقارات و«تنخرب بيوتنا». والفلسطينيون هذه الأيام لم يعودوا بحاجة لنظرية المؤامرة فهي باتت ذاتية الصنع بشكل لا يمكن للمتابع والمتحسر على القضية سوى أن يقول «شو موفقين هالأولاد». كنت أسير في إحدى العواصم الثورية العربية ووجدت فيها لوحة عريضة جدا بعرض الشارع تقريبا كتب عليها «عزيزي المواطن تذكر أن الرصيف لك والشارع للسيارة» فلم أتمالك نفسي من الضحك والتعليق بالقول: «إذا لليوم لم تحسم مسألة الشارع للسيارة أم للمشاة فهناك مشكلة كبيرة»، أشاهد كل ما يدور حولي ما بين المضحك والمبكي ولا أملك سوى الاستغراب وأقول لنفسي «كم صعب أن تكون عربيا هالأيام»، صعب رؤية الأمل في طريق مظلم ولكن هل هناك بديل عن فعل ذلك. شعوب أكثر من 60% من تعداد سكانها شباب دون العشرين تتخاطفهم أصابع التطرف في شتى الاتجاهات، صراع محموم على مستقبل الناس وسط عالم مجهول، باتت عناوين أخباره مصدر شؤم وخوف وقلقل غير عادي. في حديث جانبي مع أحد الأطباء النفسيين في مدينة عربية كبيرة قال لي إنه لاحظ زيادة في نسبة رواد عيادته بأكثر من 200% مع زيادة نوعية في «أشكال» الأمراض النفسية التي كانت غير مسبوقة. هناك إحساس مؤلم بأهمية الماضي وتعليق كل مستقبلنا بالماضي الذي شاهد بعض إنجازاتنا، وهناك إحساس قوي بالرغبة الجارفة في معاقبة من تسبب في تخلفنا، وهذا يولد صراعا مهولا بين الرغبة في النسيان وضرورة التسامح وهو ما وصلت إليه جنوب أفريقيا في صراعاتها القديمة وفشل فيه السودان والعراق ولبنان وفلسطين في علاج مشاكلهم بالأسلوب العظيم الذي أتى به نيلسون مانديلا أحد أعظم قادة القرن العشرين. ويبقى صديقي يحاول تفسير ما المقصود بالثلاث نقط التي جاءت بعد كلمة شكرا ونسي أن يقول عفوا لمرسِل الرسالة، وهكذا حال العرب غرقوا في تفاصيل جانبية وانشغلوا بها عما هو أهم وخرجوا من دائرة التاريخ. محمد عبد المطلب له أغنية عاطفية تصور إلى حد كبير ما أقصد قوله فهو يندب حظه ويقول بصوت مكسور «آه يا مين يجيبلي حبيبي» ولا أجد ردا أبلغ على ذلك سوى بالقول: حبيبك جنبك روح جيبو!

[email protected]