زوبعة.. في فنجان الأطلسي

TT

لو كانت مشادة دافوس «الخناقة» الأولى في سجل العلاقة التركية - الإسرائيلية، ولو لم يتبعها اعتذار فوري من الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز لرئيس الحكومة التركية رجب أردوغان... لجاز إطلاق العنان لتمنيات الكثيرين بأنها قد تكون نقطة تحول في علاقة أنقرة بتل أبيب.

والواقع أن العلاقة الوثيقة بين أنقرة وتل أبيب هي آخر متضرر من مشادة دافوس، بينما الرئيس أردوغان، لا القضية الفلسطينية، هو أول مستفيد منها.

نشوب المشادة في وقت تمر فيه علاقة حكومة أردوغان بأزمة ثقة صامتة مع المؤسسة العسكرية التركية (بعد تسريب أنباء عن محاولتين انقلابيتين على حكومته)، يصب في خانة «عرض عضلات» حكومة حزب العدالة الإسلامي في الشارع التركي، برسم المؤسسة العسكرية العلمانية التي لا تنظر بعين الرضا إلى حكومة حزب إسلامي نفذ بأعجوبة من قرار حظر من المحكمة الدستورية.

علاقة تركيا بإسرائيل أمتن من أن يزعزعها انسحاب أردوغان من جلسة منتدى دافوس احتجاجا على أسلوب الوسيط في إدارة الجلسة (كما أوضح الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى)، خصوصا أن سجل المشادات التركية - الإسرائيلية السابقة يظهر أنها كانت كلها مجرد زوابع لا تتجاوز حافة فنجان.

حلف شمالي الأطلسي ليس فقط بحكم الرعاية الأميركية للعلاقة التي تعتبرها واشنطن استراتيجية للأطراف الثلاثة، بل أيضا بحكم التزام المؤسسة العسكرية التركية بها كواحدة من ثوابتها الدفاعية في المنطقة.

وعليه، قد لا تكون مجرد صدفة أن تعلن مصادر إسرائيلية، عقب مشادة أردوغان وبيريز، أنه على الرغم من «الغضب» من مواقف تركيا المعلنة فسوف تزودها الصناعات الجوية الإسرائيلية بالطائرات الحربية المتفق عليها، وفي موعدها المقرر، أي خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

باختصار، العلاقة العسكرية بين تركيا وإسرائيل أوثق من أن تشوش عليها خلافات سياسية على أي مستوى كانت. ومنذ أن وقّعت تركيا عام 1996 صفقة تعاون عسكري مع إسرائيل، والطيارون الإسرائيليون يواصلون تدريب الطيارين الأتراك على فنون القتال والمناورة في الأجواء التركية.

وهذه العلاقة الوثيقة لم تعد تقتصر على التعاون العسكري فحسب، فعلى الصعيد الاقتصادي ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 2.7 مليار دولار في عام 2007، فيما ارتفع عدد السياح الإسرائيليين في تركيا من 362 ألفا عام 2006، إلى أكثر من 511 ألفا عام 2007.

ربما تعكس مسارعة الرأي العام العربي إلى التهليل بمشادة دافوس لهفة العرب إلى موقف تركي حازم من القضية الفلسطينية، يفتقدونه منذ عام 1948، أي العام الذي دخلت فيه تركيا التاريخ كأول دولة إسلامية تعترف بالكيان الإسرائيلي بعد قليل من إعلان قيامه.

ولكن يجب ألا يغيب عن ذهن الرأي العام العربي أن خلافات أنقرة وتل أبيب ليست حدثا استثنائيا، ففي عام 2004 وعلى أثر اغتيال مؤسس حماس، الشيخ أحمد ياسين، «أزعج» أردوغان إسرائيل بإطلاقه نعت «الدولة الإرهابية» عليها، ومن ثم بدعوته زعيم حماس الحالي خالد مشعل إلى زيارة أنقرة. وخلال حرب غزة أزعجها مجددا بدعوته إلى عدم السماح لمندوبها بدخول مبنى الأمم المتحدة كونها تضرب عرض الحائط بقرارات الهيئة الدولية.

رغم كل ذلك ظلت العلاقات التركية - الإسرائيلية الرسمية «كامرأة قيصر»، فوق الشبهات، وتجنب أردوغان مجرد التلميح بقطع العلاقات الدبلوماسية معها أو حتى استدعاء سفيره من تل أبيب. وبدورها تحولت العلاقة التركية مع واشنطن إلى ورقة ضغط إسرائيلية على تركيا، مما يعني أن أي تصعيد جدي في مخاصمة إسرائيل قد يرد عليه اللوبي الصهيوني النافذ في واشنطن بدعم مشروع قرار في الكونغرس يدعو إلى اعتبار حملة تركيا على الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى «حرب إبادة»، علما بأن اللوبي الصهيوني عمل، حتى الآن، على الحيلولة دون تبني الكونغرس لهذا قرار.

مع ذلك، من الإجحاف التغاضي عن جرأة أردوغان في انتقاده التصرف الإسرائيلي في غزة، وهو انتقاد يمكن اعتباره بمثابة ترضية معنوية للرأي العام العربي والإسلامي، وقبل هذا وذاك الشارع التركي الذي رد الجميل بأحسن منه، باستقباله أردوغان بتظاهرات حاشدة.

أما اعتبار مشادة دافوس نقطة تحول في موقف تركيا من إسرائيل... فهو مجرد تخمينات لا تخلو من الأماني المفرطة في التفاؤل.