مواجهة الاستقطاب والانقسام والأبعاد الأخرى

TT

فاجأتنا مجموعة من وزراء الخارجية العرب مفاجأة سارة باللقاء يوم الثلاثاء في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية، للتشاور في الشأن العربي العام، والتفكير في كيفيات مواجهة التحديات الحاضرة والمستقبلية.

وقد ظهرت الفكرة إلى العلن يوم الإثنين في 2/2/2009 في لقاء للأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية بالرئيس حسني مبارك ووزير الخارجية المصري. وبعد اللقاء غادر وزيرا الخارجية المصري والسعودي إلى دولة الإمارات، وتوافد الوزراء الآخرون إلى أبو ظبي حتى بلغ عددهم تسعة. وفي حديثه عن نتائج الاجتماع مساء الثلاثاء ركز الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية الإمارات على أمرين: متابعة مسيرة التوحيد العربي على مشارف القمة العربية العادية بالدوحة بقطر، ومنع التدخل غير العربي في الشؤون العربية.

وهذان الأمران يشيران إلى عدة مسائل بدأت بمؤتمر القمة الاقتصادية في الكويت، ثم توالت أحداثها وتداعياتها بعد ذلك، وأهم ما كان أسابيع الهجوم الإسرائيلي الثلاثة على غزة، وما أظهرته من انقسام عربي على طرائق المقاربة والمواجهة، وما أظهرته أيضا من تدخلات اختلفت أشكالها ومقاصدها من الجهات الإقليمية في النزاع الجاري على فلسطين، وطليعة هؤلاء الإيرانيون والأتراك. وهكذا فإن متابعة مسيرة التضامن العربي، المعني بها مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الدعوة للتوحد في كلمته بالمؤتمر المذكور، ثم جمعه للمختلفين ومن بينهم سورية وقطر ومصر، للالتقاء على قواسم مشتركة، تعين على أربعة أمور: إنهاء الانشقاق الفلسطيني، وإنهاء الانقسام العربي، وكف الأيدي المتحدة للاستقطاب والشرذمة بالداخل العربي، والنظر في كيفية متابعة عملية التسوية بالمنطقة خلال الشهور المقبلة؛ وبخاصة بعد أن استمع المصريون والسعوديون والأردنيون إلى ما حمله السناتور جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي الجديد.

والعنوان الأول، أي الانشقاق الفلسطيني ومعالجته هو الأبرز في الوقت الحاضر. ومصر تعمل منذ سنتين على المسألتين المتعلقتين بهذا الانشقاق؛ الأولى: تثبيت وقف إطلاق النار وفتح المعابر، والثانية جمع الفلسطينيين من أجل إقامة حكومة وحدة فلسطينية، تعيد إعمار غزة، وتنظم العمل الوطني الفلسطيني في المرحلة المقبلة من أجل إقامة الدولة. ورغم ما حصل على غزة؛ فالذي يبدو أن الأمر ما يزال صعبا وصعبا جدا. فقد حددت مصر يوم الجمعة في 5/2/2009 موعدا لدخول وقف إطلاق النار مرحلة التهدئة التي ينبغي أن تستمر عاما بحسب ما أدت إليـه المفاوضات بين الطرفين بمساعـدة مصر. لكن حماسا قالت يوم الثلاثاء – على لسان محمد نزال أحد قيادييها-

إن هذا الموعد مبكر جدا(!). وكنا نعتقد أن حماسا والفصائل الأخرى هي الأشد حرصا من إسرائيل على وقف النار، لأن الغزاويين هم الذين عانوا. بيد أن حماسا لديها اعتبارات أخرى، إذ ما يزال خالد مشعل بطهران، ويبشر كل يوم باستمرار الكفاح المسلح لحين تحرير فلسطين. وهكذا فإن نزالا لا يريد الالتزام بشيء قبل أن يعرف ما يحمل خالد مشعل في جعبته (وليس على لسانه). وحماس فيما يبدو لا تعاني من التبعية وحسب بل تعاني أيضا من إصرارها على أن تكون هي الممثل الشرعي والوحيد، مثل منظمة التحرير من قبل. وقد جاء في الأخبار أن مشعل قال بدمشق للأوروبيين الذين قبلوا التحدث إليه، إنه مستعد للتفاوض انطلاقا من حدود عام 1967. فالمسألة إذن مسألة بروز واعتراف، وليست مسألة تحرير؛ فضلا عن الإصغاء لما تريده طهران، وهي تريد الآن استمرار التوتر على مشارف المفاوضات مع الأميركيين: فهل ستقبل حماس ببساطة وقف النار، أم أنها ستقول إن فتح المعابر ينبغي أن يسبق ذلك، أو إعطاءها وحدها الإمكانيات لبدء الإعمار... الخ. وإذا كان هذا الأمر الضروري لحياة الشعب الفلسطيني وأمنه موضوع تردد من جانب حماس، فكيف إذن سيتم الأمر الآخر، والخاص بإنشاء حكومة الوحدة الوطنية؟! والواقع أن في الحكومة الوطنية العتيدة إنقاذا لحماس إن كانت تريد ذلك. فمن طريق هذه الحكومة، سيجري الاعتراف بها. ومن طريق هذه الحكومة ستجري الانتخابات التي قد تعيدها إلى السلطة بشكل أقوى وغير انقسامي. لكن هنا، وكما سبق القول، تأتي مرادات طهران للشهور القادمة، والتي لها أولوياتها المختلفة عن إرادة حماس الاعتراف العربي والدولي بها! ولذا فإن وزراء الخارجية العرب المتلاقين بأبو ظبي يوم الثلاثاء الماضي شددوا على ضرورة التلاقي الفلسطيني ـ الفلسطيني الآن، وبمساعدة مصر ودفعها. إذ هذا هو الشرط لكل ما عداه، أو نغرق في حروب داخلية من جديد، بعد أن يكون نتنياهو المتشدد قد صار رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني.

والواقع أن الانقسام العربي لا تقتصر أسبابه على طرائق حل المشكل الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فهناك الاتفاقات الثنائية التي جرت مع إسرائيل. وهناك المبادرة العربية للسلام الشامل. وليست هناك دولة عربية تدعو الآن للعودة للحرب مع إسرائيل. وبذلك فإن الإعلان عن الخلاف في «قمة غزة» الشهيرة؛ كان المناسبة وليس العلة. إذ الصراع العربي يدور حول الأدوار، وحول المصالح، وحول العلاقات الإقليمية والدولية. وقد كان هناك إجماع عربي على أن الحلول المنفردة لا تحل المشكلة، وها هو الواقع قد تغير بذهاب إدارة بوش. فالمطلوب الآن استمرار التواصل بين مصر والسعودية من جهة، وسورية من جهة أخرى. وسوف يكون الأمر سهلا، إذا فهمنا ما تريده الشقيقة سورية بالضبط. وما هو الثمن الذي ينبغي تقديمه للنظام هناك، لكي يكون مستعدا للكف عن الإيذاء بالداخل السوري وبالعراق ولبنان. وإذا كان القطريون يريدون دورا، فقد يمكن أن يكونوا مفيدين في دفع الفلسطينيين للتلاقي والتضامن. لكن مرة أخرى: ما هي الحدود أو الخطوط التي لا تسمح طهران (وأحيانا تركيا) بتجاوزها؟ ثم إن مصر ينبغي أن تدأب على الحركة المستمرة على المستوى العربي، لأنها بالفعل ليست «معبر رفح» ولا أي معبر آخر. ولأن العرب بالمشرق العربي - كما ثبت خلال العقود الثلاثة الماضية - لا يستطيعون القيام بأي نشاط سياسي كبير، أو عسكري مؤثر، من دون جمهورية مصر العربية. وقد كان أمرا سارا حضور تونس والمغرب للقاء وزراء الخارجية العرب بأبو ظبي. ففي السنوات الأخيرة، لا نكاد نسمع من المغرب العربي غير سلبيات القذافي وبوتفليقة، من دون أن نفهم في الغالب ماذا يريدان!

وتأتي المسألة الثالثة، وهي مسألة التدخلات الإيرانية ثم التركية في الأوضاع العربية. تركيا أمرها أيسر، فهي لا تمارس بنفسها أو من خلال أنصارها سياسات الفتن، كما تفعل إيران. لكنها تدأب منذ ثلاث سنوات على اصطناع دور مستقل لها بالمنطقة. وقد كانت مهتمة بسورية ونظامها، ومصالحة سورية مع السعودية ومصر. وهي مهتمة الآن بحماس والاعتراف بها على قدم المساواة. وقد كانت نبرة أردوغان كما هو معروف عالية جدا في الأسابيع الأخيرة. لكن نبرة غل - رئيس جمهورية تركيا - صارت أكثر اتزانا وتفهما. وقد جاء الرجلان إلى السعودية، لبحث الأمرين، وتشجيع التعاون التجاري المتنامي بين البلدين. أما إيران فهي تحمل لواء الحرب على الولايات المتحدة من سنوات، وليس بنفسها، بل بالجهات التي كونتها أو تناصرها مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي والنظام السوري. وأجزاء من النظام العراقي. وقد بدأت إيران – وعلى غير عادتها - حملة على مصر وعلى السعودية قبل ثلاثة أشهر وبأعذار مختلفة. وبعد إيران هاج حزب الله وهاجت حماس، وخرجت قصة معبر رفح الشهيرة. ومنذ أسبوعين تهاجم وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية دولة الإمارات العربية، بحجة أن مواطنيها يتعرضون للتمييز بمطار دبي. وقد أجاب وزير الدولة للشؤون الخارجية بالإمارات بأن الإيرانيين الذين أتوا إلى الدولة أو مروا بها عام 2008 هم أكثر من نصف مليون، وما تعرض لصعوبات أحد منهم باستثناء مجموعات قليلة كانت تمارس التهريب أو تجارة المخدرات. وتابع الوزير قائلا إن المشكلات مع إيران تتناول الاستيلاء على الجزر الإماراتية الثلاث، والعمل على النووي بما له من تداعيات وآثار على المنطقة، والتدخل في الشأن العربي من عدة نواح ومناسبات. وها هو خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يطوف منذ أيام على زعماء إيران، ولا ينسى التحرير الكامل في شيء من كلامه. وكما حدث في غزة، حدث الشيء نفسه في عام 2006 بلبنان. فإيران لا تقود الحملات المسلحة وحسب؛ بل وتقود المعركة السياسية بعد الحرب أيضا!

لكن الذي يبقى هو الأمر الرابع، وهو الأهم، وأعني به الخطة العربية للتسوية. فقد طرح العرب مبادرة السلام عام 2002، وهي إطار عام. وفي الأعوام الماضية اختار الإسرائيليون والأميركيون والأوروبيون آليات أخرى، قد لا تتلاقى مع المبادرة. وفي الوقت الذي يحتمل فيه أن يأتي نتنياهو رئيسا لوزراء العدو بعد الانتخابات في 10/2/2009، يكون على العرب ألا يكتفوا بالإطار العام؛ بل لا بد من وضع آليات، أو بتعبير آخر: إن الاعتدال ما عاد مفيدا ولا ممكنا إلا إذا صار بناء وفاعلا من خلال آليات جديدة ، ينبغي أن تكون على الطاولة في مؤتمر القمة بالدوحة بعد شهرين.

عندما استقبل الملك عبد الله بن عبد العزيز أعضاء مجلس الشورى السعودي، قال لهم إنه مضت عليه سنوات وهو يفكر في ثنائية العقل والشيطان، التي تسود الوضع العربي. لقد آن لنا أن نختار العقل والتعقل؛ من أجل تحديد الخسائر، وإيقاف الانهيار، والتصدي للانقسام العربي، وتأمين الشعب الفلسطيني والعراقي واللبناني، وصنع السلام العربي المفيد لنا وللعالم.