إيران بعد 30 سنة من عودة الخميني

TT

احتفلت إيران هذه الأيام بالذكرى الثلاثين لعودة الخميني إلى طهران التي كانت الإعلان الرمزي الكثيف لنهاية قرون من العهد الشاهنشاهي ولانتصار نموذج الثورة الإسلامية الذي بلوره الخميني في منفاه الطويل. والواقع أن النموذج لم يكن جلي المعالم عند عودته، وإن كان سحر الحدث خارقا.

ومع أن الخميني تحول في السنتين الأخيرتين قبل انتصار الثورة إلى رمز حقيقي لها، إلا أن طبيعة النظام البديل لم تكن محسومة من قبل. ولم يكن الرجل قد أصدر قبل وصوله للسلطة أكثر من كتاب سياسي واحد يقدم فيه مشروعه للحكم، هو كتاب «الحكومة الإسلامية». ومحور الكتاب تركز على نظرية «ولاية الفقيه» المعروفة في التقليد الشيعي الإمامي، وان كانت في السابق مقولة معزولة داخل هذا التقليد المتشبث بفكرة الإمامة المحتجبة وما يترتب عليها من انعدام شرعية الحكم في عصر الغيبة (غيبة الإمام المنتظر).

ولا شك أن الخميني تأثر، في استناده المعدل إلى أطروحة ولاية الفقيه، بكتابات مدرسة الإخوان المسلمين السنية، منتهيا إلى تلخيص مسألة الشرعية في الحكم بالتشريعات والنظم الإسلامية. وفي هذا السياق، يميز الخميني بين «الولاية التشريعية» (ولاية الرسول والأئمة المعصومين) و«الولاية الاعتبارية» (ولاية الفقهاء). ويوضح هذا الرأي بقوله «وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام (ع) حال غيبته إلا أن خصائص الحكم الشرعي لا يزال يعتبر توفرها في أي شخص مؤهلا إياه ليحكم في الناس. وهذه الخصائص التي هي عبارة عن العلم بالقانون والعدالة موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر فإن أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة عالمية منقطعة النظير».

وغني عن البيان كثير من الفقهاء الشيعة رفضوا هذا التصور كآيات الله الخوئي والحائري وشريعتمداري.. لذلك عندما بدأ تدوين دستور الجمهورية الإسلامية الجديدة اصطدمت حكومة الثورة التي ترأسها الوجه الليبرالي المعروف مهدي بازركان بإشكالين رئيسيين هما: التوفيق بين مطلب تكريس الحريات العامة والهوية العقدية للدولة، وصياغة نموذج ولاية الفقيه في أشكال مؤسسية معاصرة. ولم يكن المشروع السياسي جاهزا، ومن هنا تم اللجوء إلى المرجع العراقي البارز محمد باقر الصدر (قبيل إعدامه الشنيع أيام الرئيس العراقي البكر ونائبه صدام)، لتقديم رؤية نظرية ومقترحات عملية لكتابة الدستور. بيد أن الصيغة الدستورية التي خرجت من الاحتكاك كانت عاملا رئيسيا من عوامل الصدام الدموي الحاد بين أجنحة الثورة المتصارعة، بما كرسته من ازدواجية خطيرة في النظام السياسي بين السلطة الدينية المطلقة غير المنتخبة والسلطة التشريعية والتنفيذية المنتخبة المحدودة الصلاحيات والدور.

بدا نظام الثورة الإسلامية نموذجا غريبا، لا هو بالشكل التقليدي للدولة السلطانية الوسيطة، ولا هو بالدولة الراديكالية الشعبوية المألوفة في العالم العربي. ولذا توهم الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو، الذي تحمس في البداية للثورة الإيرانية، أن النموذج الجديد سيشكل أول قطيعة مع العقل السياسي الحديث، وسيقدم بديلا عن منطق الدولة نفسه. بيد أن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن مشروع أسلمة المجتمع والدولة أفضى إلى تحويل الدين إلى إيديولوجيا صلبة للنظام السياسي، مما كان عنصرا مساعدا على تعميق المساحة العلمانية في السياق الإيراني عبر بعدين مترابطين هما: تحويل السجل الديني إلى أداة من أدوات الصراع السياسي الذي يتمحور حول مواقع ومنافع لا قيم وتأويلات، وانبثاق ذاتية إسلامية مستقلة عن تقاليد المؤسسة الدينية التي لم تعد تحتكر الشرعية المعرفية والعقدية.

تغيرت إيران كثيرا بعد 30 سنة من تجربة الثورة.. غابت شخصية الخميني الكاريزماتية، ولئن حافظ النظام السياسي على ثوابته المعروفة، فإن زخمه الرمزي انحسر تدريجيا ولم يبق منه إلا حجاب شفاف يغطي الصراعات السياسية والاجتماعية المرغمة على المرور بالنسق الديني.