خطوات عراقية واثقة على درب الديمقراطية

TT

خيب العراقيون توقعات أعداء الديمقراطية والليبرالية والتقدم، بمرور الانتخابات في 14 محافظة (أربعة تنتظر ترتيب الأوضاع السياسية)، بسلام يثبت قدرة الأمن العراقي على حماية المكاسب الديمقراطية، وبنتائج تؤكد وضع المواطنين القومية العراقية قبل الطائفية ما يشير إلى ضعف النفوذ الإيراني بخلاف تقديرات الخبراء وأيضا نضج ممارسة الناخب في فترة قياسية.

جاءت الانتخابات الناجحة في أعقاب الاتفاق على جدول إنهاء بقاء القوات الأميركية، المشروط بإرادة الحكومة العراقية المنتخبة شرعيا، وهذا استثناء من القاعدة الإقليمية. فالشعب العراقي يغير الحكومة التنفيذية في انتخابات حرة غير مشروطة (في إيران يمنع مجلس غير منتخب نزول أي مرشح لا ينتمي لأيديولوجية ولاية الفقيه) وبلا محاصصة طائفية (كلبنان حيث تحتكر كل طائفة منصبا قياديا).

اتفاقية إنهاء وجود القوات الأجنبية تسحب البساط من تحت أقدام خصوم الشعب العراقي، سواء خصوم بالمصادفة كاليسار الأوروبي الذي يتصيد إعلامه أي حادثة في العراق ويضخمها لجمهوره، من منطلق معاداة أميركا؛ أو الخصوم بخيارهم التاريخي المعادي للديمقراطية والليبرالية، كالتيارات القومجية والبعثجية والجهادية كالقاعدة والإخوان المسلمين الذين يثيرون الصحافة الغوغائية بأكذوبة بقاء الاحتلال الأميركي للأبد في العراق للحفاظ على المصالح البترولية، رغم أن تكاليف الحرب لدافع الضرائب الأميركي تفوق دخل بترول العراق لعقدين.

نجح الأمن العراقي (بتدريب القوات البريطانية والأميركية) في تأمين مراكز الاقتراع وإشعار المواطن بالأمان ولم تحدث هجمات كبيرة أو عمليات انتحارية انتظرها مصورو الفضائيات الغوغائية عبثا.

خيب الناخب العراقي توقعات الفضائيات بتأكيد انتمائه للأمة العراقية قبل الانتماء الطائفي. ولم يدل بصوته للشعارات الأيديولوجية الجوفاء، وإنما أثبت وعيا انتخابيا يضع أقدامه على طريق الوصول إلى مستوى الناخب الواعي في الديمقراطيات الغربية المتقدمة.

غلبت القضايا التي تهم المواطن في حياته الأساسية على الشعارات. فتركزت القضايا الانتخابية حول أمور كتوفير الإسكان وخدمات كجمع القمامة وتنظيف الشوارع وضمان وصول المياه النظيفة إلى البيوت، والخدمات الصحية المواصلات وتأمين وصول الأطفال للمدارس.

ولمعلومات القارئ فالقضايا نفسها (من منظور بريطاني) ركز عليها الناخبون في العاصمة لندن قبل ثمانية أشهر فأسقطوا العمدة اليساري كين ليفنغستون بشعاراته ومظاهراته التي نظمها ضد زيارة الرئيس الأميركي، وانتخب العمدة المحافظ بوريس جونسون الذي ركز على تقديم برامج مفصلة عن توفير الخدمات للمواطنين بدلا من إهدار أموال دافعي الضرائب في شعارات تتعلق بالسياسة الخارجية.

المناخ الديمقراطي (ولم يكن ليتوفر للعراقيين من دون إسقاط صدام حسين ونظام البعث) وحكم القانون يرفع من وعي الناخب فيصوت لحماية مصالحه كفرد يطالب الحكومة بتنفيذ تعاقده معها. فالنظام الديمقراطي الانتخابي في إطار الدولة القومية يعني تعاقد الفرد (وليس الطائفة أو القبيلة) كدافع ضرائب، يعني صاحب عمل، مع الحكومة، كموظف عنده، لفترة يحددها الدستور. وينتهي العقد بانتهائها. ويترك الأمر للمواطن لتجديد العقد عبر صناديق الاقتراع أو توظيف حكومة أخرى.

نضج الناخب العراقي كفرد في خياراته برهان على أن ناخبا في بلد غالبيته عرب مسلمون هضم الديمقراطية بسرعة كبيرة ويمارسها بشكل ناضج. وهذا يعارض المقولة التي روج لها اليسار في الغرب وعدد دبلوماسييه وساسته بالتعامل بقبول الأمر الواقع وعدم التدخل في شؤون العرب الذين لا تناسبهم الديمقراطية الغربية، لأن القبلية العشائرية تسكن وجدانهم الجماعي والتحجج بأن إسلامهم عامل آخر يدفعهم لرفض القوانين ونظم الحكم الوضعية إذا ما تعارضت مع قانونهم الإلهي أي القرآن.

وللتذكير، فإن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش (الابن) رفض هذه المقولة بحزم في كلمته في وست - بوينت في مايو (أيار) عام 2002، قبل إسقاط البعث بعشرة أشهر، واعتبرها عنصرية ومهينة للمسلمين بقوله إن الإنسان المسلم، عربي أو من أي عرق آخر، يحلم بالحرية وسيمارس الديمقراطية، كالأميركي تماما إذا ما أتيحت له الفرصة. وتجاهل الإعلام اليساري الخطبة.

وعندما كرر رئيس الوزراء السابق توني بلير هذه البديهية، بأسلوب أكثر فصاحة، في سلسلة محاضرات هاجمه اليسار الغربي وغوغائيو الإعلام العربي مدعين بأن بلير وبوش يقودان الاستعمار الليبرالي الجديد (التعبير يناقض نفسه مفهوميا). وها هو الناخب العراقي يثبت للتاريخ صحة مقولتي الرجلين.

كما نجح الناخب، في مناخ ديمقراطي (لا يزال يحبو) في تخييب آمال وتطلعات القوى الخارجية. واتضح أن نفوذ إيران في العراق محدود، وأتصور أنه سيظل محدودا، حتى مع وجود حكومة أغلبها من الشيعة (وهو وضع سيبقي لسنوات طويلة)، لكنها ستضطر لوضع مصلحة الأمة العراقية في قائمة أولويات السياستين الداخلية والخارجية.

فالعراقيون على اختلاف أديانهم وأعراقهم، (وليس العرب السنة فقط) لا يزالون متوجسين من النوايا الإيرانية والأطماع الفارسية التاريخية. فأثناء حرب الثماني سنوات التي بدأها صدام مع إيران، حارب الشيعة العراقيون، في الجيش العراقي دفاعا عن مصالح الأمة العراقية. أما الأكراد فلهم تجربة مرة قاسية مع إيران أثناء حكم الشاه الراحل عندما تخلى عنهم باتفاقية شط العرب وتركهم فريسة لصدام حسين عام 1975.

وقد يجادل بعض المعلقين بأنها انتخابات محلية ولكن الانتخابات العامة النيابية قد تعكس هذه الأوضاع، وتكون الغلبة لقوائم موالية لإيران. وهذا احتمال وارد، لكن يمكن للعراقيين معالجته، بتعديل القانون الانتخابي. فالقانون بشكله الحالي يترك الباب مفتوحا أمام القوى الخارجية، كإيران وغيرها بالنفاذ من خلال القوائم.

الديمقراطيات العريقة وصلت لحالة الاستقرار الدستوري القانوني باستمرارها في الإصلاحات الدستورية وإدخال التعديلات على قوانينها الانتخابية البرلمانية. وبين العراقيين العديد من المحامين الدستوريين وأساتذة القانون القادرين على تغيير القانون الانتخابي من نظام التمثيل النسبي اي القوائم الى نظام انتخاب الدوائر المباشر بحيث ينتخب نائب من الدائرة مباشر.

وسيكون لذلك فائدتان: أولاهما العلاقة المباشرة بين الناخب وممثله البرلماني، الذي يستطيع محاسبته على أدائه وتنفيذ وعوده الانتخابية أثناء اللقاءات الدورية في الدائرة نفسها؛ والثانية إغلاق الباب أمام التدخلات الأجنبية عن طريق القوائم.

ولإكمال استقلالية الحكومة التي يتأتي بها الانتخابات القادمة لابد أيضا من تعديل مواد الدستور العراقي لتأكيد وجود العراق كأمة مستقلة لا تنتمي لكيانات وهمية من فضاء الشعارات، تفرق بين انتماء العربي العراقي لكيانات خارجية لا ينتمي بقية العراقيين الأشوريين والأكراد والتركمان وغيرهم، إليها عرقيا او ثقافيا.

وتأكيد مواد الدستور على أن الأمة العراقية هي المصدر الوحيد للتشريع ولا مصادر أخرى تؤدي الى التفرقة بين العراقيين حسب العقيدة أو الدين أو اللغة.

التهنئة للعراقيين، مواطنين، وقوات أمن، ومنظمين، على نجاح الانتخابات المحلية، وأتطلع إلى تهنئتهم في كل انتخابات قادمة.