لا شيء يوقف سير الحياة

TT

أنهت حفيدتي تحصيلها الجامعي تخصصاً في دراسة القانون في بريطانيا.

كان حدثاً سعيد ملأني شعوراً بالابتهاج لاعتبارات عديدة لعل أهمها، وأبلغها دلالة، هو أنها قد أكملت تحصيلها الجامعي في القانون، وفي بلد أوروبي، مشمولة بنعمة الابتعاث كالآلاف من الطالبات السعوديات اللاتي ابتعثن لجامعات أوروبا وأمريكا.

وحفيدتي هذه هي الإبنة الثالثة من بنات أسرتنا اللواتي تخصّصن في دراسة القانون في لندن.

أن تدرس حفيدتي القانون في بريطانيا كان مُباركة من أبويها، واستجابة لطموحات جيل مفتون بتطوّر الحياة.

أن تتولى حكومة بلادي الإنفاق على المبتعثات لدراسة القانون في بلد أوروبي هو الأمر الذي أريد أقف عنده وأن أتأمّل فيه تأمل العارف بما كان عليه الوطن وما آل إليه.

عندما أنهيت دراستي الثانوية في القاهرة في عام 1946م، وأردت الالتحاق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) رفضت إدارة البعثات السعودية في مكة إلحاقي بالمُبتعثين السعوديين في القاهرة والإنفاق على تعليمي كالإنفاق على تعليم بقيّة المُبتعثين. وطلبتْ إليّ إدارة البعثات أن أختار، لدراستي الجامعية، كُليّة أخرى غير كُليّة الحقوق حتى يمكن قبولي ضمن المُبتعثين. فقد كانت ترى في إصراري على دراسة القانون ضرباً من العبث، وحماقة في الاختيار!

وعندما نجحت من السنة الأولى إلى السنة الثانية عاودت الاتصال بإدارة البعثات أملاً في أن تعيد النظر في موقفها من ابتعاثي. وبعد ترقب طويل أصدر، على مضض، الشيخ محمد بن مانع رحمه الله مدير عام التعليم (لم تكن هناك وزارة للتعليم) أمره لإلحاقي بالبعثة السعودية تعاملاً مع أمر واقع يحسن التجاوز عن وجه المخالفة فيه.

على أن التحاقي بكلية الحقوق وما اقترن به من اعتراض فقبول قد فتح الباب أمام طلبة جُدُدْ كان منهم معالي الأخ الأستاذ أحمد زكي يماني الذي التحق بكليّة الحقوق بعد عامين من التحاقي بها. ويشاء حُسن الصدف، بل لنقل شاء التطوّر الطبيعي المُتدرّج لأجهزة الدولة أن نلتقي معاً في مجلس الوزراء هو وزير للبترول والثروة المعدنية وأنا وزير للإعلام وأن نكون معاً، مع الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف رحمه الله، نواة لجنة الأنظمة في مجلس الوزراء أي اللجنة القانونية التي يعهد إليها بدراسة مشاريع أنظمة الدولة قبل عرضها على مجلس الوزراء.

قبل ستين عاماً هالهم من الأمر أن أختار علماً لا فائدة للوطن فيه.

وبعد ستين عاماً يحمل السعد حفيدتي لتجد نفسها مشمولة بالابتعاث السخي كي تدرس القانون في بلد أوروبي، رغم ما فيه من قيم المُجتمع ما قد يربك أو يخيف.

إن في الاستشهاد بهذه الواقعة نثراً للضوء على مرحلة من مراحل التطوّر في حياة المواطن السعودي، وموقف الدولة أيضاً من هذا التطوّر.

وفي الاستشهاد بهذه الواقعة، أيضاً، ما يعني أن الدولة قد ظلّت دائماً أكثر استجابة لمقتضيات الحياة المُتجدّدة من بعض الأوساط «المعسكرة» خلف المفاهيم الخاطئة تحدياً لقوانين الحياة.

إنّ سياسة الابتعاث الواثقة المستنيرة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وشملت تخصصات في أدق فروع العلوم المُتقدّمة كدراسة الذرة وعلم الجينات وما إليها من حقول المعرفة المُتقدمة الأخرى، بعد أن كانت حلماً من أحلام بناتنا الطامحات، أمر نكبّره في قيادتنا فليس هناك استثمار وطني أوفر عطاءً لخير الوطن وازدهاره من استثمار تعليم أبنائنا وبناتنا في أرقى الجامعات العالمية.

لقد ظلت الفتاة السعودية حتى عام 1960م محرومة من التعليم. فلا مدارس إلا للأبناء. وعندما قرّر الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله فتح مدارس لتعليم البنات قوبل هذا الأمر، لدى الأوساط المُحافظة، بما يشبه الهلع! فالتعليم في نظر تلك الأوساط هو قصر على الذكور ولا حاجة للأنثى بأن تتعلم، وقد خلقها الله لواجبات أخرى لا يفيد في أدائها التعليم!

ولأن الملك فيصل بن عبد العزيز رجل الأناة والهدوء في الحوار، الكاره لصدام المواقف، المُتفهّم لقناعات مواطنيه فقد أراد أن يحسم الأمر مع المعارضين باللجوء إلى الحَكَم الذي لا يجادل في عدله وفي شموله.

قال لهم: إن بيني وبينكم كتاب الله وسنة رسوله. وأريد أن تأتوني بسند شرعي يحرم تعليم المرأة فأستجيب لكم طائعاً رضياً..!

كان يعلم، رحمه الله، رجاحة الرأي في ما أتى عليه.

فما كان من المعارضين إلا الصمت.. والحيرة.. والذهول!

وكانت مدارس «دار الحنان» طليعة هذا الفتح الحضاري في حياة الأمة. بادرت إليها بدعم من الملك فيصل، حرمه، الأميرة عفت الثنيان رحمها الله، ورعتها وأحاطتها بكل أسباب المُساندة فكانت النبتة التي أزهرت وازدهرت لتبقى في تاريخ الوطن الإنجاز المُتألق الذي لا يخبو له ضياء.

كان عسيراً على العقل الأوروبي أن يفهم أن هناك من بين إنسان القرن العشرين من يقاوم تعليم الفتاة. كان ذلك في بداية أعوام الستينات والصحفيون الغربيون يترددون على المملكة بدعوة من وزارة الإعلام، أخذاً بسياسة الباب المفتوح، بعيداً عن عقدة الخوف والانغلاق الخجول على النفس.

كنت أقول لهم لا يمكن للملك فيصل أن يصدر مرسوماً ملكياً يدعو فيه المواطنين إلى التخلي عن قناعاتهم واستبدالها بقناعات أخرى، والإعراض عن كل ما شكل رؤيتهم للحياة والناس! وأن تغيّر القناعات مرهون بالتطوّر الفكري والاجتماعي للشعوب تثمره أعوام متواصلة من التعليم وما يتاح للمُتعلّم من انفتاح على الدنيا والتحرّر من كل فكر أعوج معيب.

وأن الدولة أبت أن تظل رهينة هذه المفاهيم الخاطئة وأخذت على عاقتها مسؤولية الريادة والقيادة وقامت بما ترى فيه نفعاً للوطن والمواطن.

وأحدثهم أيضاً عن واقعة أخرى مليئة بالدلالات.

عندما قرّرت وزارة الإعلام إشراك المرأة السعودية في برامج الإذاعة، تصدّت لهذا القرار الأوساط المحافظة وهاجمته، ورأت فيه دعوة خبيثة مستترة للسفور والخروج بالمرأة السعودية المُسلمة من عالم الاحتشام والزج بها في عالم من خدش الحياء، وانعدام الوقار وتجريدها من كل ما كرّمها الله به من الاحتفاظ بها في منزلها مُكرّمة عزيزة «كباقة من الزهور، لا يسمع لها صوت ولا يرتفع لها نداء».

ولم يقتصر التنديد بهذا القرار (الأرعن) على كتابات رفعت للمراجع العليا تهيب بها أن تستدرك هذا الأمر الجلل بل تجاوزها إلى التعريض بهذا القرار في خطب بعض المساجد، كأن في مساهمة المرأة السعودية في برامج الإذاعة نذيراً لما هو آت من كبائر الأمور!

وهنا أيضاً كانت الدولة صاحبة الرأي الأخير.

كان في إمكان الملك فيصل أن يستدعي وزير إعلامه ويسائله في أمر أقدم عليه دون أن يرجع في ذلك إليه. إلا أن الملك فيصل وازن بين أمرين: صخب غاضب يتفهم خلفيته ودواعيه، ويعلم أن مآله حتماً الهدوء والزوال، وخطوة إعلامية وطنية رائدة لا يريد لها أن تتعثر ويتحوّل تعطيلها لقرار كابح لطموحات أخرى جديدة. فتجاهل رحمه الله مصادر الصخب، وبارك، في صمت، ما أقدمت عليه وزارة الإعلام.

إن التوسع في البعثات التعليمية، والتحاق بناتنا المُبتعثات بجامعات أوروبية وأمريكية تميّزت بالقدرة وعلو التأهيل، واقتحامهن مجالات كانت، في رؤية الرجال، وقفاً على الرجال، وتميّزهُنّ على أقرانهنّ من الذكور، والثقة المتزايدة في مواجهتهن لبيئات ليست، بالضرورة، رحيمة بهن، كل ذلك يعود بي إلى عهد بدأ فيه تعليم البنات في بلادنا على استحياء. البعض يجاهر به والبعض الآخر يمارسه في الخفاء.

أليس أمراً يستوقف الباحثين في تاريخ هذا الوطن أن يكون جدها لأبيها أمياً، لا يقرأ ولا يكتب، كأبناء جيله في القصيم وأن تنهي حفيدته دراسة القانون في بريطانيا مبتعثة على حساب الدولة!

في مجال التعليم، وفي مجال تطوير برامج التلفزيون لم تقدم الدولة، في عهد الملك فيصل، على الاستجابة لمطالب (المُتشدّدين) أو استرضائهم بحلول وسط تعيق برامج التطوير. وتعاقبت بعد الملك فيصل، سياسات الانفتاح على العالم في وتيرة اختلفت من عهد لعهد إلا إنها كانت جميعها سياسات الاقتناع بوجوب الانفتاح على الحياة، وأن الزمن لن ينتظر المُتقاعس المسكون بهاجس الخوف من كل جديد.

وهكذا أمكن لحفيدتي، وقريناتها، أن يدرسن القانون وعلوم الذرّة وعلم الجينات، مُبتعثات إلى جامعات أوروبا وأمريكا.. فليس هناك ما يمكن أن يعيق سير الحياة.

*وزير سعودي سابق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية