سلة البيض التركية

TT

لا مجال للشك أن الحرب الإسرائيلية على غزة منحت حكومة العدالة والتنمية التركية مزيدا من الزخم العربي والإسلامي، بعد الدعم الواسع الذي كانت قد حظيت به في السنوات الأخيرة، ومكنها من إطلاق أكثر من مبادرة، ومشروع تسوية، واقتراح تعاون مع هاتين الكتلتين، قادت أولا إلى إطلاق المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وكادت أن تضع حجر الأساس لوساطة تركية على خط ملف الأزمة النووية الإيرانية.

لكن الاندفاع التركي هذا أقلق البعض وأغضب البعض الآخر، فلا أحد يعرف بوضوح الأهداف الحقيقية التي تسعى إليها تركيا، التي كانت قد قررت منذ عقود طويلة الابتعاد، لا بل، الانفصال عن المحيط العربي والإسلامي، والالتحاق بركب الغرب والمشروع الأوروبي – الأميركي، وترجمة ذلك الى اتفاقيات تعاون والتزامات أمنية وعسكرية وسياسية، توجت بإلزام حكومة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينات بعقد اتفاق تعاون استراتيجي مع إسرائيل، سعت حكومة رجب طيب أردوغان في السنوات السبع الأخيرة إلى موازنته بسد هذه الفجوة، عبر تحسين علاقاتها مع دول المنطقة وإعادة ترميم الجسور وفتح الأبواب.

حكومة أردوغان متمسكة على ما يبدو بالسر الذي يعرفه الجميع، لا عودة عن قرار العودة إلى الشرق الأوسط، على الرغم من كل محاولات العرقلة والتصدي. وهي من هذا المنطلق تصر على موضوعين وتعلن أن لا تراجع أو تساهل بشأنهما: إسرائيل شنت حربا تدميرية على غزة، خرقت معها القواعد والمبادئ والأعراف القانونية والعسكرية والسياسية والإنسانية، وهي ملزمة بقبول ذلك. وتل أبيب ثانيا استغلت الجهود التركية وحسن نوايا أنقرة لتجييرها في موضوع الحرب الأخيرة، وعليها تقديم الاعتذار وإبداء تعاون جدي ملموس، إذا ما كانت راغبة فعلا المساهمة في عملية صنع السلام الإقليمي.

ومع ذلك فإن أردوغان يعاني من سوء فهمه من قبل الذين أشهروا السيوف في وجهه، فهو قال نعم مطلقة لغزة، لكنه قالها مشروطة لحماس، داعيا إياها، ومنذ البداية إلى الاعتدال وتغيير مواقفها وسياساتها وطروحاتها، إذا ما كانت تريد أن تأخذ مكانها على طاولة الحوار. وهو يصر على القول أن أنقرة غير راغبة في انتزاع أدوار أو منافسة قوى أو القوطبة على أحد إقليميا أو دوليا، وأن الاندفاع التركي في موضوع غزة سببه الأول والأخير حجم العنف والتدمير الذي تسببت فيه الآلة العسكرية الإسرائيلية وإخلال حكومة أولمرت بوعودها والتزاماتها التي قطعتها أمام تركيا قبل أيام فقط من إعلان الهجوم المبيت ضد غزة، ضاربة عرض الحائط بكل التعهدات التي قدمتها على طريق إفساح المجال أمام أنقرة لإقناع حماس بتغيير نهجها وأسلوبها الذي يعرقل تقدم مسار العربة التركية على طريق الوساطات والتسويات.

تل أبيب من ناحيتها سارعت إلى إعلان رفضها القاطع للمطلبين التركيين، ولجأت إلى واشنطن وبروكسل لإنقاذها من هذه الورطة مع تركيا. وكان خيارهما طبعا هو ترجيح كفة إسرائيل والمسارعة من دون تردد إلى توجيه فوهات المدافع نحو أنقرة، ليس فقط إرضاء للقيادات الإسرائيلية، بل لاستغلال هذه الفرصة التي قد لا تعوض: إيقاف تركيا عند حدها عبر محاولة عزلها إقليميا وإخراجها من ساحة اللعب بواسطة البطاقة الحمراء.

إسرائيل الغاضبة بدأت تلوح ببعض وسائل وأساليب الضغط، يتقدمها موضوع التعاون العسكري التقني وصفقات التسلح وتبادل الخبرات، لكن متعة بعض السياسيين الإسرائيليين هذه الأيام، وهم يتحدثون عن تلقين تركيا الدرس الأول، بسبب موقفها من الحرب على غزة، حيث تصل الطائرات الاسرائيلية إلى المدن التركية الكبرى شبه فارغة، انتقاما من الأتراك ومواقفهم الأخيرة، قد لا توصف. لكن ما يقلق أردوغان أكثر من غيره هو تأكده من أن حكومة أوباما حسمت موقفها في الموضوع الأرمني، وقررت الاعتراف بما يطالب به الأرمن منذ سنوات، وعرقلته الحكومات الأميركية المتعاقبة حتى الآن، حماية لمصالحها الاستراتيجية مع حليفها التركي، وقد تكون مواقف أنقرة في الحرب على غزة الفرصة المقدمة على طبق من الذهب لإصدار قرارها هذا.

ومع ذلك فإن أردوغان يعرف تماما أن البدل الذي قد يدفع، سيكون أكبر وأهم من محاولة تدمير الموسم السياحي التركي من قبل تل أبيب على هذا النحو، أو التلويح بالكارت الأرمني، وأن العدالة والتنمية معرض لأكثر من مفاجأة في الداخل والخارج. البعض سيحاول جاهدا، كما يقال، نقل المواجهة إلى داخل تركيا تحديدا، ولعب أوراق الانتخابات المحلية المقبلة للضغط على العدالة وإضعافه سياسيا أو التصعيد بأساليب أكثر خطورة عبر افتعال أزمات أمنية وسياسية واقتصادية تستهدف إسقاط حزب أردوغان وإبعاده عن الحكم.

أردوغان يعرف تماما أنه غامر حقا عندما قرر تسليم سلة البيض بأكملها إلى أهالي غزة وائتمانهم عليها، وأنه سيدفع ثمنا لذلك بالمقياس الإسرائيلي للأمور عاجلا أم آجلا، لكن ما جرى، وبحسب قيادات العدالة والتنمية، كان يستحق المجازفة، فتركيا اليوم تراهن على عصر ذهبي إقليمي واعد، ساهم الكثيرون في وضع أسسه، وهو أهم من موضوع تجاهل أنقرة أو تركها على لائحة الانتظار خلال جولة مندوب أميركا إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل، أو الجلوس وانتظار اتصال أوباما بالقيادة التركية، وهو الذي رجح الاتصال بدول من فئة الدرجة الثانية والثالثة في علاقاتها معها وشكرها على برقيات التهنئة والترحيب بالإدارة الأميركية الجديدة.

رئيس الحكومة التركية الذي يجد نفسه اليوم أمام تكتل إسرائيلي – أميركي – أوروبي، يحاول عبر غزة نفسها تصفية حساباته مع أنقرة، إرضاء لتل أبيب، وحماية لمواقعها الإقليمية، يعرف أنه يغامر بكل ما بناه خلال السنوات السبع الأخيرة من علاقات وتحالفات أزعجت، على ما يبدو، هذا المحور، لكن أكثر ما يقلقه هو ليس حجم ومفعول ما يملكه هذا التكتل القادر على تهديد المصالح التركية في أكثر من مكان وقضية، بل كيف سيتصرف العالمان العربي والإسلامي حيال كل ما يجري.

أردوغان ملزم في جميع الأحوال بكسب التأييد العربي والإسلامي، ووقوف دول هاتين المجموعتين إلى جانبه علنا، خاصة من قبل من طالبه من بينها بالتنسيق والتعاون وتوحيد الجهود لإنهاء أكثر من محنة، وغير ذلك سيحرمنا جميعا فرصة الخروج عن المألوف، ويعيد المنطقة عشرات السنين إلى الوراء، مفرطين في فرصة سانحة قد لا تعوض.