بين المرجعية الدينية والسياسية

TT

مفهوم أن يكون لدى كل إنسان مرجعية فقهية دينية أو روحية، فمئات الملايين من الكاثوليك لهم بابوية تمثل رمزية روحية ودينية. وملايين من البوذيين في كافة أنحاء العالم يرون في الدلاي لاما مرجعية بوذية وروحية. وملايين من المسلمين الشيعة يجدون في المراجع الدينية الشيعية مراجع روحية ودينية يقلدونها ويستمدون من توجيهاتها تعاليم دينهم. والمسلمون السنة يرون في هذا العلامة أو ذاك المفتي مصدرا للفتاوى يتبعون ما يفتي به في أمور دينهم.

وصحيح أن الدين استخدمته الكنيسة الكاثوليكية في العصر الحديث في أميركا اللاتينية لمحاربة الدكتاتورية مثلما جرى في السلفادور ونيكاراغوا. كما استخدم الدلاي لاما – والبوذية بوجه عام - للتصدي للشيوعية الصينية، واستخدمت اليهودية السياسية ممثلة بالحركة الصهيونية الدين اليهودي لتبرير إنشاء دولة إسرائيل وتعبئة اليهود في كل مكان للمساندة السياسية بناء على تفاسير دينية حسب فهم الصهيونية.

واستخدم الدين الإسلامي من قبل السي آي إيه – باعترافهم - في تثوير المسلمين كافة ضد الاتحاد السوفياتي بعد غزوه لأفغانستان. بل إن أسامة بن لادن نفسه كان ينسق معهم في أفغانستان وباكستان.

ولعبت المرجعية الخمينية دورا سياسيا شبيها، واستمرت تلعبه حتى بعدما طرد الخميني من العراق، ورفضت الكويت استقباله، إلى أن استقبلته باريس وبقي فيها حتى عاد إلى طهران بعد الإطاحة بالشاه. وبقيت العلاقة بين الدين والسياسة مثار جدل وصراع على مدى التاريخ. وخلصت المجتمعات المتطورة من خلال التجربة البشرية المتراكمة، أن الدين والسياسة شيئان متضادان: فالسياسة متقلبة، تراعي المصالح والسلطة، والدين لا تقلب ولا مصالح دنيوية فيه تقدم على ما هو إلهي وعقائدي. والسياسة لا تعرف السواد المطلق في الموقف ولا البياض الناصع الذي لا يتغير، فالرمادي لونها الغالب، يتحين الفرص وينتهز الظروف، بينما الدين فيه الحلال بيّن والحرام بيّن. ومحرمات السياسة اليوم، قد تصبح حلالا غدا، بينما المحرمات الدينية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان محرما بالأمس، لا فتوى تجيز تحليله اليوم، وما كان حلالا في الماضي، يبقى حلالا لا يحرمه أحد حتى يوم الدين. وفي السياسة، يمكن أن يكون عدو الأمس حليف اليوم، وحليف الأمس عدوا لدودا. لكن الدين يضع حدودا في التعامل مع الأطراف السياسية ويفرض تلك الحدود بفتوى دامغة لا يجوز تعديلها.

قد يقول قائل: لكن الدين حمّال أوجه! ولا جدال في ذلك، لكن تفسير هذا القول أن السياسة استخدمت الدين لتبرير ألاعيبها، وأتت دوما برجال الدين لتضفي شرعية روحية على نهجها. ومن ثم تعددت التفاسير للقضايا الدنيوية البحتة، وتنوعت الفتاوى – بل تضاربت حول مسائل لا حصر لها: فمرجعية ولاية الفقيه السياسية يدفع بها أنصارها بتفاسير وفتاوى دينية، لكن خصومها يدحضونها بتفاسير وفتاوى دينية أيضا. والخلافة في منهج أهل السنة السياسي، يتطلع لها الإخوان المسلمون من الأعلى- أي السيطرة على السلطة، بينما يرفضها السلفيون التقليديون الذين يرون صلاح المجتمع لفرض الخلافة السياسية.

مهم جدا أن نستذكر هذه المفاهيم، ونحن نرى من يروج من حركة الإخوان المسلمين «السنية» هذه الأيام لمرجعية دينية - سياسية في طهران، بعدما كان - ولا يزال - فكر الإخوان المسلمين مخالفا للفكر الشيعي كعقيدة. ومهم جدا أن نتذكر أن «ملة» خلط الدين بالسياسة واحدة: سواء كانت سنية أم شيعية، فهي في النهاية تنشد تحقيق أهداف سياسية وإن رفعت شعارات دينية.

التقلبات السياسية واحدة منذ بدء السياسة، ولا يغرنك لحية هذا أو عمامة ذاك، فمن مارس السياسة صار سياسيا، وإن بسمل وحوقل وأفتى، فهو مثل أي سياسي آخر في التاريخ: اليوم هنا، وغدا هناك...

راقبوا المشهد، ونزهوا الدين فوق السياسة، واسموا بالعقيدة فوق المصالح الدنيوية المتقلبة، وقولوا بكل صراحة: نحن سياسيون نقف حيث تكون مصلحتنا السياسية!!