مسؤوليات القرار العربي في مواجهة الدور الإيراني

TT

الجدل الذي دخله الوضع الفلسطيني، مربوطا بالجدل الذي دخله الوضع الرسمي العربي، مربوطا بالنقاشات والتجاذبات حول مراكز القوة في الوضع الإقليمي، تجعل من أي نقاش سياسي منطقي يسعى إلى الخروج بنتائج عقلانية، عملية شبه مستحيلة. إن كمية المهاترات والاتهامات التي سمعناها وشاهدناها في الأيام القليلة الماضية، بين محللين وسياسيين صغارا وكبارا، تصيبنا باليأس من إمكانية إجراء حوار متبادل ومتفهم. لم تعد المسألة في نقاش حالتنا أن نستكشف ما هو الصواب وما هو الخطأ، إنما أصبحت المسألة كيف نحافظ على التهذيب الإنساني في المخاطبة وفي تلقي الرأي المعارض والرد عليه.

لهذه الأسباب، وربما لأساب غيرها أيضا، نحتاج أولا إلى تذكر بعض التوجهات الأساسية التي لا بد وأن تشكل قاعدة للحوار، أو مدخلا للحوار. نقول بداية إن هذه التوجهات موجودة ومعلنة في مواقف عربية (السعودية)، وفي مواقف إسلامية (تركيا)، ومن المفيد اعتمادها بدلا من اعتماد مواقف أخرى ملتبسة.

نبدأ من الوضع الإقليمي، أو مما يقال عنه المحور الإيراني أو المخطط الإيراني. هل هذا المحور موجود؟ وما هو الموقف منه؟

إيران دولة أساسية من دول المنطقة، وهناك من ينظر إلى المنطقة على أساس أنها تتشكل من ثلاث قوى أساسية هي: العرب وإيران وتركيا. وهي ثلاث قوى تنتمي إلى حضارة إسلامية واحدة، قادرة على أن تكون أساسا متينا لبناء تحالف ثلاثي يجعل من هذه القوى الثلاث، قوة إقليمية فاعلة على مستوى العالم.

من حق أية قوة من هذه القوى الثلاث، أن تسعى وأن تعمل لكي تنال كل ما تستطيع الوصول إليه من نفوذ تستحقه كقوة إقليمية أو كدولة. إنما من دون أن يعني ذلك المساس بالحق المماثل الذي هو من نصيب الدولة المجاورة. وتصبح مسألة التعاون والتوازن هنا، مسألة أساسية في ضبط العلاقات وتطويرها.

وحين يتعلق الأمر بنفوذ إيراني أو تركي، يحاول أن يكون له داخل المنطقة العربية وجود منفرد أو متميز، فإن الأمور تدخل في مرحلة الصراع بدل التعاون، وعلى الطرف العربي عندها أن يرفض دورا إيرانيا من هذا النوع. وحين يوجد دور إيراني من هذا النوع لا بد من الوقوف في وجهه وصده ومنعه. ومن الضروري أن تكون هذه القضية واضحة في أي نقاش يدور. وهنا نلاحظ على أرض الواقع أن كلا من السعودية ومصر، عبرا في الأسابيع الماضية بوضوح شديد عن التمسك بهذه القضية، وحشد التحالفات حولها.

ولكن.. وبالمقابل.. لا بد أن نلاحظ أيضا، أن جزءا أساسيا من الانقسام العربي حول هذه القضية الأساسية، لم يكن بسبب الخلاف حولها، إنما كان بسبب كيفية ترجمة هذه القضية إلى عمل سياسي مباشر. أو أنها نقطة مبدئية صائبة عبرت عن نفسها بترجمات سياسية خاطئة.

القول بأن إيران تدعم فكرة المقاومة، كوسيلة من وسائل توفير نفوذ لها في المنطقة العربية، ثم اعتبار التنظيم الفلسطيني الذي يقاوم تنظيما إيراني الوجهة والولاء، ثم تكبير الأمر وتصوير سيطرة هذا التنظيم على الوضع في غزة (عام 2007) بداية توفير الأجواء للعدوان الإسرائيلي المجرم على غزة (أواخر عام 2008)، والاستناد على ذلك كله من أجل الدعوة للتخلص من هذا التنظيم، لأنه يمهد الطريق للدور الإيراني الخطر، قول فيه الكثير من الافتعال، والكثير من تحميل الأمور ما لا تحتمل. لقد شكل مثل هذا التحليل قاعدة للتقييم والإدانة للجريمة التي حدثت في غزة، إنما عبر تحميل المسؤولية عنها للتنظيمات المقاومة وليس لإسرائيل التي ارتكبت جريمة القتل والتدمير. وقد نتج عن ذلك سياسة عملية على أرض الواقع خلاصتها تصعيب الأمور أمام التنظيمات المسيطرة، ومن مدخل قضية معبر رفح، لدفع هذه التنظيمات إلى التسليم بما عرف باسم (المبادرة المصرية)، في ما يتعلق بقضيتي التهدئة مع إسرائيل، وفتح المعابر، وكانت النتيجة نوعا من العقاب المفروض على أهل غزة، وليس عقابا مفروضا على التنظيمات المعنية.

وكان حريا بدولة عربية بوزن مصر ومكانتها، أن تحتكم إلى سياسة يبرز فيها احتضان فكرة المقاومة، واحتضان أهل غزة، بحيث تتشكل هناك جبهة مقاومة للتدخل الإيراني دعما لمبدأ التدخل العربي الطبيعي في الموضوع الفلسطيني.

وهناك نموذج آخر للمواقف السياسية التي نعنيها، تتعلق بما يعرف باسم اتفاقية معبر رفح الموقعة عام 2005. لقد تم توقيع هذه الاتفاقية مع السلطة الفلسطينية قبل نجاح حركة حماس في الانتخابات، وقبل تشكيلها للحكومة، وقبل سيطرتها المنفردة على الوضع في غزة. وحين جاءت محادثات فتح المعبر بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، أصرت الخارجية المصرية على أن الأمر لن يتم إلا عبر الاتفاقية المذكورة. وكان هذا يعني على أرض الواقع، عودة السلطة الفلسطينية (حكومة سلام فياض) إلى المعبر، وتنحية أي وجود لحركة حماس. وحتى لو كان هذا الرأي صحيحا، فإن نتيجته على أرض الواقع هي دعم طرف فلسطيني ضد طرف آخر، وتحويل مفهوم المصالحة الفلسطينية، من منطق التفاهم إلى منطق السيطرة. وبرع وزير الخارجية المصري في إيراد الحجج التي تؤيد هذا الرأي، ومنطلقها أن مصر لا تستطيع أن تؤيد سلطة فلسطينية في غزة قامت على أساس الانقلاب عام 2007، مع تجاهل كامل لحرب غزة ونتائجها وتأثيراتها. وأوجد هذا حالة من التوتر بين حركة حماس والحكومة المصرية، امتدت آثارها إلى الشارع العربي وإلى الإعلام العربي. بينما كانت هناك مرجعيات فلسطينية وعربية وإقليمية تستند إلى قاعدة التفاهم بين السلطة وحركة حماس، لم يتم الالتفات إليها، أو العناية بها بدرجة كافية. ولو أن تلك المرجعيات شكلت مدخلا آخر للبحث لوجدنا أنفسنا أمام حالة سياسية من نوع مختلف، ومن أمثلة ذلك:

ـ أعلنت السعودية يوم 2 شباط 2009، وفي بيان صادر عن اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه الملك عبد الله، موقفين مترابطين. الموقف الأول يقول: التنبه للأطماع الإقليمية الخارجية التي تتستر وراء الادعاء بدعم قضايا العرب والمسلمين. الموقف الثاني يقول: إن وحدة الصف تتطلب في ما يخص القضية الفلسطينية، الأخذ بمفهوم المقاومة التي تحقق لشعب فلسطين وحدته، وترسخ مؤسساته الشرعية..

ـ تحدث الرئيس التركي عبد الله غل أثناء زيارته للسعودية، وفي الخطاب الذي ألقاه أمام أعضاء مجلس الشورى (4/2/2009)، عن اتفاق مكة الفلسطيني وقال بشأنه: لو كانت الوعود التي قطعت في ذلك المنبر الشريف، قد لبيت وطبقت فإنني واثق أن القضية الفلسطينية ستكون في موقع القوة حاليا. وأكد على الفرقاء الفلسطينيين أهمية العودة إلى الالتفاف حول اتفاق مكة، الذي تسانده تركيا بكل قوة. والمعروف أن جوهر اتفاق مكة هو الاعتراف المتبادل، والتعاون المتبادل والمشترك، بين حركتي فتح وحماس باعتبارهما الفريقين اللذين حازا الأغلبية في الانتخابات.

وكان قد سبق لرئيس وزراء تركيا طيب أردوغان القول بأنه لا يجوز إبعاد حركة حماس عن السلطة بعد أن فازت بالانتخابات. والقول أيضا إنه لا يجوز اتهام حركة حماس بالإرهاب. وأدت هذه التصريحات إلى تفاقم الأزمة بينه وبين إسرائيل.

إن ما سجلته السعودية في بيانها الوزاري. والأجواء التي سادت مباحثات الرئيس التركي مع الملك عبد الله، تؤسس لرؤية من نوع آخر، تسمح بالتلاقي بين التيارات الفلسطينية، برعاية عربية من جهة، وباحتضان إسلامي ـ إقليمي من جهة أخرى. وحين يحدث ذلك فإن النتيجة تكون إبعادا وصدا لكل سياسة إقليمية تسعى إلى أن تتخطى الوضع العربي، بحثا عن أدوار سياسية غير عربية، سواء كانت إيرانية أو غير ذلك. كما أن النتيجة تكون تدعيما للتلاقي الثلاثي: العربي والتركي والإيراني، في وجهة تعاون واحدة، بدلا من مواجهة تضر بالجميع، ولم يفكر بها العرب أصلا.

وهنا نعود ونؤكد، أن المقصود من هذه الإشارات التي أوردناها، هو التأكيد على الحق الذي لا مساومة فيه، بأن القرار في المنطقة العربية هو بيد العرب، ولا بد أن يبقى بيد العرب. ولكن الاحتفاظ بهذا القرار يفرض على أصحابه مسؤوليات احتضان الآخرين، إنسانيا وسياسيا ونضاليا. وكذلك مسؤوليات مساعدتهم على فرض ولو شيء من أهدافهم وشروطهم على العدو الذي ارتكب جريمة التدمير بحقهم، حتى حين يصر هذا العدو على فرض شروطه.