تداول الأيام

TT

في أوروبا وأمريكا على وجه الخصوص يولون كتابة اليوميات أو تسجيلها أهمية، ومنذ الصغر يشجعون أبناءهم على ذلك، فمنهم من يستمر ومنهم من يتوقف وهم الأغلبية، غير أنه من النادر أن يكون هناك سياسي مهم أو زعيم أو أديب تخلو حياته من تسجيل يومياته.

وقدر لي أن أطلع على يوميات (مسز بيل) - وهي في يوم من الأيام كانت الحاكمة بأمرها في العراق - وذهلت كيف أن تلك المرأة منذ سنة 1889، إلى سنة 1926 وهي لم تتعب وتتوقف عن الكتابة إلا في آخر يوم من حياتها.

السياسيون والقادة في العالم العربي لم ينتهجوا هذا النهج، وإن كان بعض الأدباء والمفكرين مثل طه حسين في (الأيام)، وتوفيق الحكيم في (عصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف)، ولويس عوض في (أوراق العمر)، وعبد الرحمن بدوي في (سيرة حياتي) قد حاولوا.

إلا أن ما كتبوه لم يكن غير ذكريات واسترجاع لما مضى من حياتهم، ولم تكن فيها جذوة الحرارة اليومية الحيّة، فخرج أغلبها باردا متكلفا.

وأذكر في مرحلتي الإعدادية جربت أن أكتب يوما بيوم عن كل ما يصادفني، ووجدت أن حياتي رتيبة ليس فيها ما يثير، فقررت أن أفتعل الإثارة لكي أكتب ما يستحق، وحصل يوما أن اعتديت على من هو أصغر مني بالشتم كي أسجل فعلتي، فما كان منه إلا أن ذهب راكضا وشكاني إلى أخيه الذي هو أكبر مني فاعتدى عليّ بالضرب وسجلت تلك الحادثة التي كانت الأخيرة في يومياتي التي خجلت منها ومزقتها فيما بعد.

غير أنني أعرف رب عائلة درس في أوروبا. ويبدو أنه تأثر بهذا النمط من السلوك الحضاري، وعندما رجع وتزوج اتخذ تقليدا تسير عليه عائلته كلها، وهو أنه علق في غرفة جلوس العائلة أوراقا تشبه التقويم الشهري، يكتب فيها هو وزوجته وابنه، ما يحصل لهم كل يوم مهما كانت الأحداث، وفي كل يوم جديد تبدأ صفحة جديدة، وما زالوا على هذا المنوال منذ 18 سنة، طبعا أكثرها (تفاهات)، ولكن هذه هي حياتهم بصدق.

بل إن ابنه الوحيد البالغ اليوم سبعة عشر عاما كان والده يضعه أمام الحائط وفي نفس المكان ويصوره كل سنة في كاميرا الفيديو في يوم ميلاده في لقطة لا تزيد على دقيقة واحدة، ودمج هذه اللقطات في فيلم واحد، وشاهدت بعيني ذلك الابن وهو يطول ويكبر دفعة واحدة منذ أن كان عمره سنة واحدة إلى أن وصل إلى السابعة عشرة، وتعجبت كيف أنه كان في صغره جميلا، والآن وجهه (يقطع الرزق).

ولكي أحزنكم معي قليلا اقرأوا معي ما كتبته (هيلد كوبي) في آخر يومياتها في سجن الاعتقال سنة 1942، بعد ثمانية أشهر من إنجابها لابنها (هانس) وقبل إعدامها بساعات، تقول لأمها: أمي الحبيبة حان الوقت لنقول وداعا إلى الأبد، لقد اجتزت المرحلة الأصعب، وهي انفصالي عن صغيري (هانس)، آه، كم أسعد حياتي، إنني موقنة أنه سيلقى رعاية جيدة بين يديك الحبيبتين.

في طفولتي عندما كنت أتمدد في سريري عاجزة عن النوم، كانت تسكنني فكرة وحيدة: أن يتاح لي الموت قبلك، وفيما بعد كانت لي أمنية أخرى رافقتني باستمرار: ألا أموت قبل أن أنجب طفلا إلى هذه الحياة، وهكذا ترين أن الله استجاب وحقق رغبتي.

وعندما تضمين (هانس) إلى صدرك، ثقي أن ابنتك هي دائما معك.

[email protected]