أسئلة أم أجوبة صعبة؟!

TT

من المتعارف عليه أن بعض الأسئلة تكون صعبة ومحيّرة، أما اليوم فإن كل الأسئلة أصبحت واضحة ولم يتبقَ هناك سؤال واحد لم يُسأل بخصوص المحرقة الإسرائيلية في غزة، والأجوبة الحقيقية تكاد تكون على ذات المستوى من الوضوح، إلا أن الأسئلة تبقى صعبة لأكثر من سبب. سؤال طرحه روبرت فيسك في جريدة «الإندبندنت» البريطانية في 31/1/2009 «منذ متى بدأنا لا نعير اهتماما لموت المدنيين خلال الحروب؟». ويستعرض فيسك في مقاله كيف أن القوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد حرب فيتنام قد سنّت القوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحماية المدنيين في الحروب «وكان هناك إحساس عام أن الآخرين قد يرتكبون بشاعات، أما نحن الغربيون المتحضرون فبريئون منها». ويحاول فيسك متابعة الأحداث للوقوف عند الحدث الذي تبلّد معه شعور الغربيين حيال الانتهاكات الصارخة لحقوق البشر وخاصة حيال المجازر البشعة التي ترتكب ضد النساء والأطفال دون أن تحرك الحكومات الغربية ساكنا. ويستنتج أن مجازر عديدة ارتكبت منذ مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 إلى مجزرة قانا، ومروحين، وجنين، ولكن الحرب على العراق عام 2003 هي التي مثلت عودة الغرب إلى أساليبه القديمة من قصف للجسور والمراكز الإعلامية والمساجد وغيرها، إلى تدمير المنازل فوق رؤوس أصحابها، وخنق الشباب واغتيالهم أمام كاميرات التلفاز، وقتل المدنيين العزل وهم في المنازل، واستهداف الأعراس، والمدارس، والجامعات. ولم يُحاسَب أحد على إصدار الأوامر أو على تنفيذ هذه المجازر، ولم تُبذل أية جهود دولية لمعاقبة أحد أو ملاحقته قضائيا رغم كل المناظر الوحشية لأشلاء الأطفال العرب التي انتشلت من تحت ركام منازلهم أو مدارسهم.

هل كانت الحرب على العراق في أحد جوانبها تجربة لقياس ردود فعل الرأي العام على مثل هذه المجازر؟ أو لإدراك إمكانية ارتكاب جرائم الحرب هذه، والاستمرار بارتكابها في المستقبل دون محاسبة؟ وما هو المدى الذي يمكن للمعتدين «الغربيين المتحضرين» الذهاب إليه دون عقاب؟ بعد المحرقة الكبرى، حيث تمت إبادة مليون مدني في العراق، وتهجير ما يزيد على أربعة ملايين آخرين. إسرائيل، التي راقبت ردود فعل بعض العرب المتواطئ في الحرب على العراق، طورت تجربتها في ارتكاب المجازر ضد المدنيين العرب، فتجاوزت في حرب تموز عام 2006، وفي حربها على المدنيين في غزة، كلّ الحروب التي شنت على العرب في أي مكان وزمان، حيث قامت بارتكاب مجازر وحشية بكل المعايير ضد الأطفال والنساء والمدنيين، وباستهداف المشافي والمدارس والمساجد والمنازل والملاجئ بما فيها التابعة للأمم المتحدة، وهدم البيوت فوق رؤوس الأطفال والنساء، واستخدام الأسلحة والذخائر المحرمة دوليا، بما فيها الفسفور الأبيض وقنابل دايم التي تزودها بها الحكومات الديمقراطية المتحضرة، بحيث قد يصبح عدد الشهداء أعلى بكثير من الأرقام الأولية إذا ما أخذنا أعداد المفقودين والأسرى الذين لم تعلن إسرائيل عن أسمائهم كي تبيدهم كعادتها، وكذلك لأن العديد من الجرحى يستشهدون كل يوم بسبب إغلاق المعابر والحصار المفروض على الدواء. ومع ذلك تختصر ليفني، بعد أن تلطخت أيديها بدماء الأطفال العرب، كلّ هذه الجرائم بالقول «انفلتت قواتنا من عقالها في غزة». فيما يرفض الإعلام الغربي «الحر» مثل الـ«بي بي سي»، والـ«سكاي نيوز» وضع إعلان على شاشتيهما لإغاثة المدنيين في غزة!! كما أن المسؤولين كافة في «الغرب المتحضر» لم يدينوا القتل اليومي المتعمد الذي ارتكب بوحشية، تذكّر بالقرون الوسطى، للمدنيين في غزة، بما في ذلك قتل أكثر من خمسمئة طفل، ومثلهم من الأمهات والمسنين، وهدم وتدمير ما يزيد على خمسة وعشرين ألف منزل، وأربعة وثمانين مسجدا، وقصف عشرات سيارات الإسعاف وقتل طواقمها. لم تثر هذه الوحشية لدى «المتحضرين» سوى «القلق من مستوى العنف». ولكنك تراهم يولولون على معاناة المدنيين في دارفور والكونغو والتاميل! والسؤال هو: لماذا لم يتعامل «المتحضرون» الغربيون مع معاناة أطفالنا العرب كما يتعاملون مع الحالات المشابهة؟ ولماذا لم يدينوا قتل إسرائيل لأطفالنا بهذه الوحشية ولم يغضبوا أو يحتجوا حتى على الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها قوات إسرائيلية رسمية لكل القوانين والاتفاقيات التي وضعوها هم الغربيون في القرن العشرين؟

الجواب على هذه الأسئلة قد يبدو ليس سهلا، لأنه يتعلق بأكثر من موضوع ومفهوم. فبعد أن سقطت كل الادعاءات والأوهام عن هدف بوش بنشر الحرية والديمقراطية في العالم العربي، وتبيّن مدى النفاق السياسي الذي لفّ هذا الادعاء، والمآسي التي تحملها المدنيون العرب، لا بدّ أن نبحث عن أجوبة لهذا السؤال في نقطة ما، خاصة أن الحروب التي تشنّ علينا تستخدم من قبل أعدائنا كدروس في حروب قادمة كي تكون أقسى وأكثر وحشية. لا شك أن إسرائيل ككيان عنصري معاد في كل تكويناته ضد العرب، هي اختراع استراتيجي غربي، وهذا ما يؤكده دوما، وبشكل مكرر، المسؤولون الغربيون الذين يؤكدون التزامهم «بأمن إسرائيل» وعندما يرتكب أبشع جرائم الحرب يؤكدون علنا «حقها في الدفاع عن نفسها»، حتى وإن شمل هذا الحق إبادة العرب كما ينادي الكثيرون من الزعماء العنصريين الإسرائيليين أمثال ليبرمان ونتنياهو، اللذين تزداد شعبيتهما كلما ازدادا دموية وقتلا وفتكا بأطفال فلسطين. ومن نافل القول إن إسرائيل تستخدم آلة إعلامية ممولة بسخاء، وبتحركات مخابراتية لتجنيد السياسيين والإعلاميين والكتّاب للدفاع عن سياساتها، وتقوم بنشاطات دبلوماسية للترويج لمجازرها قبل وبعد ارتكابها، وتستخدم مفردات لغوية ومفاهيم مخادعة لا علاقة لها بالممارسة الفعلية القائمة على إبادة العرب، ولكنها تبدو منطقية للغرب كمفاهيم. كما تستخدم في الحرب، كما حصل في عدوانها على غزة، التعتيم الإعلامي المطلق على المجريات الميدانية.

لقد قتلت إسرائيل عام 2003 الصحافي البريطاني جيمس ميللر 34 عاما، الذي كان يصور فيلما في رفح عن أثر العنف على الأطفال في فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ وعائلة ميللر تخوض معركة قضائية إلى أن أثبتت أنه قُتل عمدا من قبل المخابرات الإسرائيلية، خاصة وأن عملية القتل تم تصويرها من قبل مصور آخر. وقد وافقت إسرائيل منذ أيام أن تدفع 2.2 مليون دولار لعائلة ميللر، وقالت العائلة «هذا أقرب اعتراف يمكن أن نصل إليه بأنهم مذنبون». ولذلك فإن ملاحقة مجرمي الحرب على غزة ضرورة حياتية ووجودية لنا العرب في كل أقطارنا، كي يدرك السياسيون والعسكريون الإسرائيليون وجنودهم أن جرائمهم لا تمرّ دون عقاب. والجرائم التي ارتكبوها لا تعدّ ولا تحصى، ولكن يجب ألا يفلتوا منها هذه المرة وإلاّ فإن أرقام الإبادة ستزداد كما حصل، حيث كانت أعداد ضحايا مجازرهم بالأفراد فأصبحت بالعشرات ثم بالمئات، والآن وصلت في غزة للآلاف، فيما يتوعد ليبرمان باستخدام السلاح النووي الإسرائيلي ضد المدن العربية.

هل تتذكرون، قبل هدم أول بيت فلسطيني، الحوار الذي دار في «العالم المتحضر» عن أن «هدم المنزل هو جريمة وفق اتفاقيات جنيف» وكم اهتم العالم بذلك المنظر الوحشي، أما اليوم فنقرأ، على شريط إخباري سريع، هدم خمسة وعشرين ألف منزل، دون أن نرغم العالم على أن يتوقف وينشغل بمعالجة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم.

ولمن لا يصدّق بأن الغربيين لا يفرقون بين عربي وآخر من ناحية الاستهانة بحقوقهم ودمائهم، عليه فقط أن يقرأ مراجعة كاميرون بار لكتاب مارتن أنديك «البراءة المفقودة» والذي صدر مؤخراً ويروي «مجريات التعثر الأميركي في الشرق الأوسط». يقول كاميرون بار: «مرة تلو أخرى في الكتاب يعبّر أنديك عن تعاطفه مع وتفهمه للقادة الإسرائيليين ومآسيهم السياسية ولكنّ معرفته بالناس على الجانب الآخر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي أقلّ وضوحا بكثير».

يبدأ الكتاب بنصيحة قدّمها كلينتون إلى كولن باول «بألا يثق بعرفات أبدا»، ويفسّر أنديك غضب الفلسطينيين في 15 أيار واعتباره يوم النكبة «لأنه يوم تأسيس إسرائيل في عام 1948»، دون أن يأتي على ذكر المجازر التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون والملايين الذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم التي تم تدميرها لتقام عليها المستوطنات التي جلب إليها مهاجرون يهود من دول أجنبية.

لقد سألني صحفي أميركي منذ أيام: كيف تفسرين ما يرتكب بحق العرب في العراق وفلسطين واستهتار العالم بدم المدنيين الأبرياء في كلتا الحالتين؟ قلت: الجواب الوحيد الذي يفسّر فعلا ما يحدث هو أن هذه القوى التي تعتدي علينا متفقة أننا هنود حمر المنطقة، وأن قتلنا وإبادتنا مباحان، وقد يكونان ضروريين لمستقبل استيطانهم. أجابني: أتفق معك. ولكن، هل يتفق معي بعض العرب الذين يقفون أيضا في دائرة الاستهداف، بغض النظر عن أحلام اليقظة الوردية بمكانتهم لدى الآخر؟

www.bouthainashaaban.com