اليمن آخر معاقل الإرهاب الآمنة

TT

أعلن تنظيم القاعدة من الأراضي اليمنية في شريط مصور، أن تنظيمي اليمن والسعودية أصبحا تنظيما واحدا، وقد أعلنت القيادة الجديدة أن تحرير القدس يمر من صنعاء والرياض. هذا الظهور الإعلامي المعد بدقة، ليس إلا بداية لتدشين مرحلة جديدة في إستراتيجية «القاعدة» في مواجهة النظام السياسي اليمني الذي كفره زعيم التنظيم الجديد ناصر الوحيشي، وطالب في مقابلة نشرتها الصحافة المحلية ببناء تحالف داخلي لإسقاطه، ومن جهة أخرى بداية لتحويل اليمن إلى قاعدة لتنفيذ عملياتها في السعودية والخليج. ونتيجة تركيز التنظيم على التواجد الأجنبي في بحر العرب والبحر الأحمر، فإن نقل مقر القيادة إلى اليمن هو بداية مرحلة جديدة كليا لممارسة الإرهاب البحري، ولم تكن القرصنة البحرية إلا البروفات الأولية لإرهاب البحار الذي تخطط له «القاعدة».

وانتقال التنظيم إلى اليمن له دلاله ذات أبعاد متعددة، البعد الأول: أن الضربات القاصمة الأمنية والفكرية التي تلقاها التنظيم في السعودية أجبرته على الانتقال إلى بيئة أكثر أمنا، وهناك احتمال أن التنظيم أراد أن يمعن في التخفي فنقل القيادة إلى الأراضي اليمنية، بهدف خلق ستار ضبابي حتى يتمكن من إعادة بناء نفسه في المملكة، واليمن كفيل بمدّ التنظيم بالقوة المقاتلة والمدربة لتنفيذ عمليات نوعية، أما البعد الثاني: فإن التنظيم في اليمن بلغ من القوة التي جعلته يعلن اليمن كمقر للقاعدة في الجزيرة العربية، حيث أكد قيادي في «القاعدة» لصحيفة محلية أن تنظيمهم في اليمن في أقوى مراحله، وأنه تمكن عام 2008م من إرسال ثلاثمائة مقاتل إلى أفغانستان والعراق والصومال، بما يعني أن هناك بنية تنظيمية قوية ومتماسكة ومنتشرة وقادرة على العمل وبفاعلية.

ومن يتابع أنشطة «القاعدة» في اليمن خلال السنوات العشر الماضية رغم أنها من المرتكزات الآمنة للقاعدة، كما تؤكد «القاعدة» وكثير من المحللين، ظلت رغم العمليات المتقطعة في حالة سكون ولم يتبن التنظيم المواجهة مع النظام وضرب مفاصل الاقتصاد الوطني إلا خلال الفترة السابقة، حيث ركز على ضرب المنشآت النفطية والسياحية وقتل الأجانب وتفجير السفارات والتهديد بالاغتيالات، وهذا دفع الدولة إلى تكثيف المواجهة وإعادة ترتيب إستراتيجيتها، وتبني مواجهة شاملة ضد «القاعدة» وفكرها وضرب كل ما له علاقة بالإرهاب بيد من حديد، كما أكد الرئيس اليمني مؤخرا في اجتماعه بالقيادات الأمنية لبلاده. وقد تمكنت الأجهزة الأمنية خلال العام الماضي وبداية العام الحالي من ملاحقة أعضاء التنظيم وكشف الخلايا التي كانت في طور الاستعداد لتنفيذ عملياتها في اليمن والسعودية.

ومن يقرأ الواقع اليمني بأبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية وطبيعته الجغرافية وموقعه الجيواستراتيجي، سيجد أن اليمن هي الحلقة الأضعف بين دول المنطقة وأن بيئتها ربما تمكن «القاعدة» من تفعيل إرهابها بما يهدد أمن المنطقة والعالم، فالحدود البحرية اليمنية مفتوحة وواسعة، وتتميز اليمن بسلاسل جبلية وعرة بإمكانها أن تخفي جيشا من الإرهابيين، كما أن صحراءها واسعة إضافة إلى ذلك فإن الدولة تواجه تحديات تنموية وأمنية كبيرة والنخب السياسية متنازعة وعلى وشك أن تتقاتل فيما بينها، ونقائض الدولة في المجتمع كثيرة تبدأ بالقبيلة وزعمائها وتنتهي بالحركات السياسية المتحدية لشرعية النظام السياسي ولوحدة الدولة.

إلى ذلك، فرغم الجهود المبذولة خلال الأربعين سنة الماضية، فإن اليمن لم يتمكن من التخلص من عوامل التخلف، فمعدلات الأمية مرتفعة جدا والفقر منتشر والبطالة في أعلى معدلاتها، ويمثل الانفجار السكاني ومحدودية الموارد وهيمنة القوى التقليدية القبلية والأصولية على المجتمع ومع معضلة الصراعات السياسية، كل ذلك أدخل اليمن في أزمات متلاحقة أضعفت الدولة وأفقدتها هيبتها، وتحول الفساد إلى معضلة غير قابلة للحل في ظل التنازع على السلطة والثروة بين قوى تؤسس لشرعيتها الواقعية على قيم تقليدية مناهضة لبناء الدولة الحديثة. هذه الوضعية هي البيئة الملائمة التي تساعد الإرهاب على النمو، ومن يتابع تاريخ «القاعدة» سيجد أنها لا تنمو إلا في المجتمعات المتأخرة والمغلقة على نفسها والمعزولة عن العصر والتي تغلب عليها ثقافة القبيلة الثأرية وتسيطر عليها ثقافة أصولية مؤدلجة، وأيضا في المناطق الرخوة التي تتصارع فيها النخب على المصالح بمعزل عن المجتمع.

وعند تناول تنظيم القاعدة في اليمن قد يعتقد البعض أن الصراع الداخلي الذي بلغ أوجه خلال السنوات الثلاث الماضية بين النظام وبعض أقطابه المهمة وبينه وبين المعارضة هو من يهيئ البيئة اليمنية للإرهاب، حيث يرى البعض أن التوجهات الجديدة للنخبة السياسية في تبني سياسات أكثر عقلانية في مواجهة العالم وتبني سياسات حاسمة في مواجهة نقائض الدولة، قد دفعت جزءا من النخبة السياسية المؤثرة في المعارضة والحكم إلى تحريك أدوات «القاعدة» لتخويف وتهديد النخبة الحاكمة بالفوضى العامة إن لم تتفهم مصالح الآخرين، وهذا الطرح في تصوري ليس إلا تغطية وتمويها عن الحقيقة التي تؤكد أن «القاعدة» ظلت تعمل خلال السنوات الماضية بهدوء ومارست الكثير من الخداع، وهي تتحرك وفق إستراتيجيتها الخاصة، وقد حان وقت تحويل اليمن إلى مركز لانطلاقتها الجديدة بعد محاصرتها عالميا وأن التأخر في ظل التوجهات الراهنة للنظام ربما يعيق إستراتيجيتهم.

وهنا لا بد من ملاحظة مهمة، هي أن النخبة السياسية بكافة تفرعاتها الفكرية لا يمكن أن تتحالف مع «القاعدة» أو تستغل وجودها لتحقيق بعض أجندتها، فالبعض يشير أيضا دون إدراك إلى طبيعة الصراع الداخلي ولطبيعة «القاعدة». إن «القاعدة» ربما تجد تعاطفا داخليا من بعض القوى السياسية الداخلية خصوصا التي تتخوف من سياسات الرئيس صالح واتجاهات الجيل الجديد من أبناء النخبة الحاكمة ذات التوجهات الانفتاحية والقومية والذي يستند في وجوده على السلطة كمحدد جوهري لنفوذه ويعمل على فرض إرادة الدولة بالقوة في مواجهة نقائضها من خلال اللجوء إلى بناء المؤسسة العسكرية المحترفة والأجهزة الأمنية الفاعلة والعمل على تفعيل الحزب الحاكم وبناء تحالفات تجارية واجتماعية، مصالحها مع دولة قوية ومهيمنة وقادرة على ضرب من يتحدى شرعيتها.

صحيح أن أكثر المتخوفين من الإستراتيجية الجديدة للقوى الشابة في السلطة هم إما القوى التي تعتمد في قوتها على التحالفات القبلية أو على خطاب وطني مستند على رؤية أصولية معادية للقوى الغربية خصوصا الولايات المتحدة أو قوى معارضة إسلاموية، وأيضا الحركات الرافعة لشعارات انفصالية، إلا أن المراقب المتفحص لواقع تلك القوى سيجد أن «القاعدة» تتناقض مع مصالح الأطراف كلها، ورغم ذلك يرى البعض أن جزءا من هذه القوى هي القوى المستفيدة من الفوضى التي بإمكان «القاعدة» أن توسع من نطاقها والتي ستحاصر النخبة الحاكمة وتهيئ الظروف لاستمرار الدولة الضعيفة والهشة، مما يسهل لها تحقيق أهدافها إما بالانقضاض على الدولة أو بالانفلات من سيطرتها، وفي أحسن الأحوال إعادة بناء توافق لا يهدد مصالحهم.

ويؤكد البعض هذا التفسير بالإشارة إلى التلميحات التي تحاول استغلال الوضع في الضغط على الحزب الحاكم لتقديم تنازلات لصالح بناء توافق، وتخويف الداخل والخارج بأن إصرار الحزب الحاكم على سياساته الانفرادية في خوض الانتخابات دون توافق مع المعارضة وأيضا في إدارة البلاد، هي ما يهيئ البلاد للفوضى باعتبارها المدخل الرئيسي لـ «القاعدة».

السؤال الأكثر أهمية: أين يكمن الحل لمواجهة مخاطر الإرهاب ومحاصرته والقضاء عليه؟ يمكن القول بأن الأمر بحاجة إلى حزمة قوية ومتماسكة يمكننا أن نشير إلى بعضها، فلا بد قبل كل شيء من حملة منظمة وواسعة وحازمة لمواجهة الأفكار المتطرفة والأفكار التي تقود إلى التطرف، وتطوير القدرات الأمنية لليمن، وثانيا لا بد من مؤتمر وطني لمواجهة الإرهاب يؤسس لبناء تحالف واسع بين القوى الاجتماعية والسياسية بين أبناء اليمن أيا كانت تناقضاتهم لمواجهة العناصر الإرهابية ومواجهة أي طرف داخلي سياسي أو اجتماعي يسهل تحركات الإرهابيين أو المتعاونين معهم. وثالثا لا بد من توسيع التعاون الأمني بين اليمن والسعودية ودول الخليج. ورابعا: يمثل إضعاف سلطة زعماء القبائل لصالح الدولة من المداخل الرئيسية في الحرب على الإرهاب. وخامسا: التركيز على توسيع العملية التعليمية في المناطق القبلية بمساعدة دولية وإقليمية واستغلال الموارد الطبيعة في هذه المناطق لصالح تنميتها.

أما على المدى البعيد فإن تبني مشاريع صناعية عملاقة على طرفي الحدود اليمنية السعودية سوف يجعل من مناطق الحدود مناطق جذابة للعمالة، وسوف يسهم ذلك في انتعاش المناطق التي تتحرك فيها «القاعدة» سواء في شبوة أو مأرب أو حضرموت أو صعدة وحجة، وفي ظل نمو هذه المناطق سيجعل تواجد الدولة قويا وفاعلا. ويمثل إخراج اليمن من مشاكله الاقتصادية بتعاون إقليمي ودولي ضرورة أمنية إقليمية وإعلامية، ومن المهم في الراهن مساعدة اليمن على بناء قوة بحرية قادرة على حماية سواحلها الطويلة.

وبالتوازي مع ذلك، لا بد من تدعيم قوة الدولة اليمنية على أسس عصرية متوافقة مع الواقع اليمني ولا بد من حكم محلي كامل الصلاحيات، وهذا يتطلب بناء مؤسسة عسكرية وأمنية محترفة وخلق توافق وطني بين أعضاء النخبة السياسية على أسس فكرية وسياسية واضحة تؤسس لدولة ديمقراطية منفتحة على العالم، ويمثل نقل العاصمة اليمنية من صنعاء إلى عدن وتحويل حضرموت إلى منطقة اقتصادية حرة تجعل من اليمن حلقة ربط الخليج بآسيا وإفريقيا، من الحلول الإستراتيجية التي بإمكانها أن تعيد ترتيب التحالفات وتشكيل نخبة سياسية متماسكة وقوية تجمعها المصالح والأفكار المتنورة وهذا سوف يساعد على حلحلة أزماتنا الوطنية الراهنة ويرسم للبلاد مستقبلا زاهرا.

* كاتب يمني