في مهب «الديمقراطيات» المشوّهة

TT

يطلّ مساء اليوم على اللبنانيين النائب ميشيل عون، كعادته في نهاية الاجتماع الأسبوعي لتكتله النيابي كل إثنين.

إطلالات النائب عون غدت مناسَبة لا يجوز أن تفوّت، لأنها الإفراز الأسبوعي لـ«مدرسة» جديدة في اللامعقول السياسي المنطلق أساسا من شخصانية جامحة، ترى في نفسها - وفي ما تمثل من مواقف وشعارات سياسية - صفات فوق المساءلة.. التي هي في صميم أي نظام يدّعي ممارسة الديمقراطية.

ولكن مَن قال إن اللبنانيين يمارسون الديمقراطية؟ وهل يستحق ما يؤمل أن يمارسه اللبنانيون يوم 7 يونيو (حزيران) المقبل هذا المسمى.. ما دام يفتقر إلى العناصر الثلاثة الضرورية للديمقراطية الحقة: الوعي، والمساءلة (أو المحاسبة)، والمسؤولية في تحمّل تبعات القرار، صائبا كان أو خاطئا؟

فكثيرون من اللبنانيين يرفضون أن يعوا ما هم سائرون في اتجاهه، ويسمحون لعصبياتهم الكيدية وغرائزهم الطائفية بشطب الحاجة إلى مساءلة مَن يخدعهم ويقامر بمصيرهم، ويجبنون عن تحمّل مسؤولية خياراتهم وقراراتهم الخاطئة عبر صناديق الاقتراع.

واليوم ضمن معطيات الحالة الراهنة.. بما فيها من سلاح خارج سلطة الدولة، وقانون انتخابي فرض فرضا بسطوة هذا السلاح، ومال «نظيف» و«غير نظيف» ينفق في كل الاتجاهات بلا سقف قانوني ولا رقابة ولا من يراقبون، وتنصّت «حكومي» و«خاص» على عباد الله.. تراهم يتصرفون كما لو كانوا آخر من يعلم!

هذا الوضع المؤلم يزداد خطورة في ظل الديمقراطية المشوّهة أيضا عند جيران لبنان. وإذا كان لا حاجة للتوقف طويلا أمام تجربة «الديمقراطية» السورية، حيث تُحجز الأغلبية سلفا لـ«الحزب القائد» (الحاكم منذ 1963) ومَن تهبط عليه نعمة التحالف معه في جبهة وطنية واحدة، فلنراجع حالتي إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

الإسرائيليون الذين يتوجهون غدا إلى مراكز الاقتراع لانتخاب «كنيست» جديدة، تقوم «ديمقراطيتهم» على منطقين مناقضين تماما لمبادئ الديمقراطية، هما: الخوف العصابي (من السلام)، وازدواجية المعايير إزاء الخيار الحرّ للآخرين، الذين هم في هذه الحالة الشعب الفلسطيني.

غدا، وفق آخر استطلاعات الرأي، نحن موعودون بأرجحية برلمانية لليمين العنصري والديني المتشدد، الذي بات يجسد تلقائيا «سلطة الحكم» الشرعية في إسرائيل، بعدما كان في العقود الأولى من تأسيس الدولة أقلية شبه هامشية.

وإذا صدقت الاستطلاعات وتمكّن حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان من احتلال المرتبة الثالثة بعد «الليكود» و«كديما».. ستصبح أي فرصة للسلام مع الفلسطينيين نسيا منسيا، بل قد يخرج مشروع «الترانسفير» من الأدراج، علما بأن هذا الاحتمال أضحى واردا بعدما بلغت الأمور عند بعض قياديي حماس، إبان العدوان على غزة، مناشدة فلسطينيي 48 الانتفاض على الاحتلال، ناسين أو متناسين أن هذا بالضبط ما يحلم به أمثال ليبرمان وبنيامين نتنياهو. فانتفاضة من هذا النوع داخل أراضي الـ48 ستوفر ذريعة «الدفاع الوقائي» لليمين الإسرائيلي، للخلاص مما يعتبره «القنبلة الديموغرافية العربية» الموقوتة. الصورة ليست أفضل بكثير عند الفلسطينيين، الكل يتكلّم عن جنوح الناخب الإسرائيلي نحو اليمين المتشدد، ولكن دون دخول دوامة «الدجاجة والبيضة».. أليس هذا ما يفعله الناخب الفلسطيني أيضا؟ أليست حماس تجسيدا حيا لليمين الديني المتشدد.. إذا ما سمحنا لموضوعيتنا بالكلام، ولو للحظة، بعيدا عن التشنج والمزايدات؟

صحيح أن الناخب الفلسطيني أعطى حماس أغلبية برلمانية في الانتخابات العامة الأخيرة، لكن أي أغلبية برلمانية يستمر مفعولها لنهاية فترة عمر البرلمان ولا تكون تفويضا «إلهيا» مطلقا. وعادة في حال وجود تعارض بين الرئيس المنتخب والسلطة التشريعية المنتخبة، توجد ثلاثة خيارات: إقدام الرئيس على حلّ البرلمان، أو إقدام الأغلبية على تقديم استقالات جماعية تفرض حلّ البرلمان بأمل الحصول على تفويض شعبي جديد يكبّل الرئيس، أو التوافق على مساكنة سياسية مؤقتة.

هذه الخيارات الثلاثة راحت أدراج الرياح بعد سيطرة حماس بقوة السلاح على قطاع غزة، وفصلها القطاع عن سلطة «السلطة». واليوم تذهب حماس إلى أبعد من هذا، بإعلانها صراحة سعيها إلى إطاحة «السلطة» بعد سحبها اعترافها بشرعيتها.. دون أن تنسى تخوينها.

أن تأخذ قوة سياسية مقاتلة شعبَها «رهينة» ليست في حد ذاتها سابقة، فثمة تجارب عديدة عرفها العالم خلال القرن العشرين، منها تجربة «الخمير الحمر» في كمبوديا. فهؤلاء كانوا في الأصل ثورة شعبية حقيقية ضد انقلاب لون نول، عميل الولايات المتحدة، على الحكم الشرعي العاقل للأمير نوردوم سيهانوك الذي رفض زجّ بلاده في أتون حرب الهند الصينية بفيتنام ولاووس. غير أن زعيمهم بول بوت اعتبر أن من حقه بعدما انتصر فرض ثقافة بديلة على شعبه بقوة السلاح، وكانت الحصيلة البائسة «حقول القتل» المعروفة وما تلاها.

اليوم أمام خطر اليمين الإسرائيلي المتشدد - المنتخب «ديمقراطيا» - هناك قفزة فلسطينية في المجهول تدّعي بدورها التفويض «الديمقراطي». وهاتان الشرعيتان «الديمقراطيتان» الصداميتان تجدان نفسيهما في خضم لعبة «عض أصابع» دامية، إقليمية ودولية، لإيران والولايات المتحدة دور كبير فيها. وسيكون تصرف اليمين المتشدد الإسرائيلي إزاء إيران جديرا بالرصد، وبخاصة إذا صدق الكلام عن منع الإدارة الأميركية السابقة حكام إسرائيل الحاليين من مهاجمة المواقع النووية الإيرانية.

السيد خالد مشعل يقود انقلابه «الديمقراطي» على منظمة التحرير الفلسطينية من قلب دمشق وبدعم من طهران، وباسم «ديمقراطية» السلاح والمال يشارك النائب عون أيضا في الانقلاب على الشرعية اللبنانية، بدعم كل من دمشق وطهران. وكلام البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير، بالأمس، عن أن انتصار المحور الذي ينتمي إليه عون سيرتب «أخطاء... لها وزنها التاريخي على المصير الوطني» واضح كل الوضوح بهذا الشأن، وكذلك قوله في الحديث الصحافي نفسه عن أن «هناك أناسا عندهم مطامع يريدون إزاحة رئيس الجمهورية ليحلّوا محلّه».

ولكن يبقى سؤال لا بد من طرحه، هو: كيف تفسّر دمشق بنظامها القائم على «العلمانية» و«العروبة»، والتي حاربت ياسر عرفات بلا هوادة بتهمة علاقاته «الإسلامية» المرفوضة، دعمَها اليوم لقوى «إسلامية» ألغت القرار الفلسطيني المستقل ورهنته لصراع إقليمي ودولي أكبر منه؟