أيام فاتت

TT

كثيرا ما يعجب الناس من استشهادي بشتى الوقائع والمعلومات المتعلقة بالحياة الاجتماعية في العراق. يقولون: لا بد أن القشطيني قرأ وحفظ كل ما كتب عن الحياة هناك. الحقيقة هي انني لم اقرأ أي شيء عنها. لم اقرأ حتى كتب الدكتور علي الوردي سوى ما تعلق منها بالبغاء في بغداد.

معظم معلوماتي وثقافتي يعود الى ما تعلمته من اخوتي. فمن مزايا العائلة الكبيرة ان الاولاد يتعلمون من بعضهم البعض. ولما كنت اصغر اخوتي السبعة فقد تعلمت الكثير ممن كانوا اكبر مني.

كان أخي مظفر رحمه الله شغوفا بالسياسة وغارقا بالقومية والوطنية. والقوميون والوطنيون في تلك الايام كانوا على الاغلب نازيين، وكذا كان مظفر. يهرب كل يوم من المدرسة ويذهب إلى مقهى الدفاع ليستمع الى كل المناقشات السياسية. يعود مساء الى البيت ليعطينا آخر انباء الساعة. وكلها طبعا انتصارات وانتصارات باهرة تسجلها الجيوش الالمانية على سائر الجبهات. كان على يقين تام بأن اول ما سيقوم به هتلر في الشرق الاوسط هو تحرير فلسطين من اليهود. اخيرا، ضاقت السلطات ذرعا به وبأمثاله من النازيين فألقت القبض عليه وزجته في المعتقل. وحسنا فعلت. فبدون ذلك، لربما بقيت استمع اليه وأعتقد ان هتلر هو الذي فاز في الحرب وأن الألمان قبضوا على جورج السادس وأعدموه رميا بالرصاص في ساحة الطرف الأغر.

أخي الاكبر إحسان رحمه الله، لم يعبأ بالسياسة قط. انحصرت اهتماماته بالغيد الحسان والحب والغرام. كان يعود ليلا ويتحفنا بأنباء جولاته وصولاته وانتصاراته مع بنات بغداد في حديقة المعرض وسوق البزازين وشارع أبي نوآس. حملني الى الاعتقاد بأن معظم نساء العراق شلة من قليلات الحياء. كذا تصورت حتى اكتشفت ان كل ما كان يرويه لنا لم يخرج عن نطاق نسج الخيال واكاذيب الشباب. وهذا ما حملني بدوره الى الاعتقاد بأن الكذب شيء مغروس في قومي وملتي والعاقل اللبيب من لا يستمع لما يقوله العراقيون. وهو ما لم يفعله جورج بوش مع الاسف عندما استمع الى زعماء المعارضة العراقية.

أما موفق فقد كان شغوفا بتثقيف نفسه في الامور الجنسية والعاطفية. كيف ينبغي على الرجل ان يعامل المرأة و يداري عواطفها ونزعاتها، ونحو ذلك. كنت أراه يجلس في زاوية من الحوش ويقرأ هذه الكتب بحرص وتركيز كبير. وهو ما حدانا الى اعتباره حجة في هذه المواضيع. كنا نسأله من اين تلد المرأة، هل من صرتها او من فمها او من مكان آخر؟ سألته يوما لماذا اعطانا الله حلمتين على صدورنا كحلمتي المرأة؟ هل هي من باب الاحتياط اذا ما حصل لرجل ان حمل واحتاج إلى ترضيع طفله؟ المسكين موفق رحمه الله، عاش ومات بدون حب.

وكانت أيام، آه! أيام وفاتت.

www.kishtainiat.blogspot.com