تأملات قارئ للصحافة العربية

TT

أستهل هذا الحديث عن الصحافة بالاعتذار للقارئ عن الأخطاء المخجلة والمحرجة التي ارتكبها الكمبيوتر الثلاثاء الماضي. يبدو أن الكمبيوتر الذي اختير لصف الكلمات كان شديد الغيرة، فوق أميته، على إيران وحسن حزب الله.

حذف الكمبيوتر اسم «حسن» حيثما ورد في موضع النقد. بدهاء الذكي الجاهل، حوَّر قولي عن «الاختراق الفارسي للعرب» إلى الاختراق الفارسي العربي!

أما إشارتي إلى «مخصصات مجلس الجنوب» لتنمية الشيعة التي تثير جدلا سياسيا فى لبنان، فقد حورها إلى «مخصصات مجلس الجنوب للتنمية الشعبية»!

لست هنا فى وارد تسجيل على الأخطاء المطبعية. فهي كثيرة في مقالة مختصرة تقل عن 800 كلمة. يبدو أن المصحح كان في إجازة. وأنا شديد الحساسية إزاء الأخطاء المطبعية. لا أحب أن أترك القارئ يعاني مشقة الدخول فى متاهة الأخطاء، في اختبار لذكائه ليعرف ماذا يقصد الكاتب.

أيضا، أقدم اعتذاري للقارئ عن الحرف الدقيق جدا. السبب أن جاري العزيز مشاري الذايدي يصر على الإسهاب في مقالاته القيّمة. وقد قصف «الخليفة العثماني» في الثلاثاء الفائت بنحو 1500 كلمة. ولأن جاري ينسى تعميما لرئيس التحرير بعدم تجاوز المقالة ألف كلمة، ولأن سكرتارية التحرير مؤدبة ومهذبة مع الكتاب، ولا تعمد إلى اختصار مقالات المخالفين، فإني أناشد رئيس التحرير نقلي إلى صفحة الرأي الثالثة، إراحة لجاري العزيز، وإراحة لقارئ ملول فى عصر التلفزيون والانترنت، لا يحب الإسهاب، ولا الأخطاء، ولا الحرف الدقيق الذي يحتاج إلى مجهر لقراءته.

قبل أن أغادر متاهة الأخطاء المطبعية، أروي للقارئ حكاية لي معها، جاءتني يوما برقية تأييد للدكتاتور أديب الشيشكلي (1954). ويبدو أن مصحح الجريدة فاته الخطأ المطبعي فيها. فقد ظهرت الصحيفة وفيها برقية تخاطب الرئيس بالقول «سدد الله خطاياكم»! من حسن الحظ أن الشيشكلي لم يكن يقرأ برقيات المداهنة والنفاق، وإلا كان ناشر الجريدة ومصححها وأنا فى خبر كان. لكن في هذه الأيام السعيدة. باتت برقيات «تسديد الخطى» تزاحم أهم الأحداث فى صدر صحف الرئيس بشار.

ما دام الحديث عن الصحافة، فلا بأس في أن أشارك القارئ معي فى شؤونها وشجونها. بالمناسبة، كنت في لقاء قبل أسابيع فى مقهى باريسي، مع الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز. والأمير الشاب، كما هو معروف، رئيس مجلس إدارة «المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق» التي تصدر عن إحدى شركاتها هذه الصحيفة. لكن وفاءه لشقيقه الراحل الأمير أحمد مؤسس المجموعة، وتواضعه الشديد، يحولان دون وضع اسمه، ولو إلى جانب اسم شقيقه.

وطال الحديث عن الصحافة. والأمير فيصل شأنه شأن أنجال الأمير سلمان أمير الرياض، خريج أرقى جامعات العالم، وواسع الثقافة والخبرة. كان الرأي أن الوقت قد حان لإنشاء «مطبخ» صحافي في الصحف العربية الكبرى. أقصد إلحاق أكبر عدد ممكن من المحررين بإدارة التحرير، بدلا من توزيعهم على الأقسام، كما هو الأمر في الصحافة البريطانية.

مهمة المطبخ الصحافي إعادة تحرير الخبر (re-editing)، ومراجعة المخبر والمراسل والموفد لاستكمال عناصر الخبر والتحقيق. وإنصافا للجنود المجهولين فى مطبخ الصحافة، فقد حرصت مجلتا الـ«تايم» و«نيوزويك» منذ سنين بعيدة على إدراج أسماء المحررين مع أسماء المندوبين والمراسلين.

الصحافة اليومية لا تستطيع منافسة التلفزيون في سرعة تقديم الخبر. لكن تملك الوقت الكافي لاستكمال تفاصيل الخبر والتحليل الإخباري له، ثم تحويله إلى «ريبورتاج» قصصي أشبه بفيلم تسجيلي مشوِّق للقارئ. كل ذلك يتطلب محررين متخصصين، وكأنهم كتِّاب سيناريو ومخرجون سينمائيون.

هذا المحرر هو المطلوب اليوم فى مطبخ الصحف العربية الكبرى، في وقت تشتد منافسة التلفزيون والانترنت لصحافة الورق والحبر. لا يشين هذه الصحف الاستعانة بمحرري «المطبخ» في الصحافة ووكالات الأنباء الأميركية لتدريب وتأهيل جيل شبابي جديد من المحررين، يكونون عونا للمحررين المثقلين بالعمل الشاق حاليا فى المطبخ الصحافي.

أود أن أقول هنا إني أتحدث عن الصحافة كمجرد قارئ أمضى حياته الصحافية الطويلة يدرس ويتعلم وما يزال. في الحديث عن محنة الصحافة الأسبوعية، التي تسجل تراجعا مستمرا أمام التلفزيون والانترنت والصحيفة اليومية.أقول إن الإنقاذ هو في التحقيق (الريبورتاج) في موقع الحدث الساخن. الإنقاذ في إرسال فريق عمل إلى حروب غزة، ومخيم نهر البارد والصومال ودارفور، وانتخابات مجالس المحافظات فى العراق. وكوارث الشتاء في الجزائر والمغرب...

كل ذلك على سبيل المثال.

لا بد من تحديد هوية وشخصية وهدف لكل مجلة. فعل ذلك إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين فى «صباح الخير»، فاستهوت المجلة الشابة قلوب وعقول جيل الخمسينات والستينات.

قبل «صباح الخير» فعل ذلك مصطفى أمين فى مجلة «الاثنين» ثم في «أخبار اليوم». وبعد «صباح الخير» فعل ذلك سليم اللوزي في «الحوادث» اللبنانية.

الإخراج الفني للصحافة الأسبوعية يحتاج إلى تطوير. اطلاع المخرج الفني على إخراج المجلات الأوروبية والأميركية مفيد في لعبة اللون والحرف، وفى ترك فراغ مريح لعين القارئ. أيضا لا بد من رشاقة القلم وسحر الأسلوب في النص والعنوان. مع الاستغناء عن الملف الأرشيفي ذي الظل الثقيل. ومع الاستغناء عن المقابلات والمقالات الطويلة المملّة والمتوالية برتابة أسبوعا بعد أسبوع.

أذكر أن الزميل ممتاز القط دعاني عندما تولى رئاسة تحرير «أخبار اليوم» إلى الكتابة الأسبوعية فيها. هالني وأحزنني، بعد الانقطاع الطويل عن قراءتها، أنها باتت مزدحمة كشارع مصري. كتبت شهورا وانقطعت. لا أدري ما إذا كان الأستاذ ممتاز وجد من الوقت ما يكفي لإعادة النظر في الإخراج، للعثور على فراغ وفضاء يحميان القارئ من الاختناق في الزحام.

ذلك قليل من كثير، عن هموم وتطلعات الصحافة العربية. الحديث لا يستكمل إلا بتناول مشكلة غياب وكالة أنباء عربية على المستوى الإقليمي على الأقل. ما زالت أخبار العرب تُغربل وتُصاغ وتكيف في مطابخ وكالات الأنباء الأجنبية في لندن وباريس ونيويورك.

الحديث لا يستكمل أيضا إلا بالتناول بالتفصيل قضية إصدار صحيفة دولية بالإنجليزية. أنقذ رجل الأعمال البرازيلي كارلوس سليم الحلو ذو الأصل اللبناني صحيفة «نيويورك تايمس» كبرى الصحف الأميركية من متاعبها المالية. آمل في أن يتجرأ رجل أعمال عربي أو أكثر في الإقدام على إصدار وتمويل صحيفة دولية في اهتماماتها، بحيث لا تستغرق الشؤون العربية السياسية والثقافية سوى عشرة في المائة فقط من حجمها. لكنها كافية لمنح صنّاع القرار في العالم والقارئ الدولي رؤية عادلة ومنصفة للعرب.

أتوقف عند هذا الحد. أخاف أن أسهب فأزاحم وأضايق مقالة صديقي وزميلي الذايدي. ففيه وفيها كل جديد ومفيد في كل أسبوع.