الإعلام العربي.. فاعل أم مفعول به؟

TT

في الحرب، كما الحب، كل شيء مباح، إن لم يكن في الحرب كل شيء مستباح.

من هذه المستباحات الإعلام، الإعلام عند كل طرف من أطراف الصراعات، وما أكثرها في منطقتنا.

الإعلام العربي، شاء أم أبى، هو طرف من أطراف هذه الصراعات المتشعبة والمتوالدة، بعض الوسائل الإعلامية تحاول، قدر ما يمكنها التزام المهنية على الأقل في خطابها ومحتواها الإعلامي، والبعد عن اللغة التعبوية المباشرة، والتركيز على قوة المعلومة وميزة السبق الإخباري، ثم على ثراء برامجها الحوارية التي تلقي الضوء على المناطق المعتمة خلف جدار الأخبار.

على سبيل المثال، لنلق نظرة بسيطة على الصحف والفضائيات اللبنانية، بحكم كثرتها وشفافية الانتماء السياسي هناك، وليس هذا طبعا بسبب النضج الديمقراطي اللبناني، بل بسبب العجز عن انتاج ديكتاتور لبناني فرد واحد . في لبنان لن يجادلك احد إن قلت إن المنار أو الجديد، أو قناة عون، كفضائيات، أو الأخبار أو السفير، كصحف، ليست إلا جزءا من قوة جماعة 8 آذار، التي يكون حزب الله عمودها الفقري.

بينما في الجانب الآخر نرى: فضائية المستقبل بفرعيها الإخباري والعام، والى حد ما إل بي سي، وكصحف جريدة المستقبل(ولذلك هاجمت ميليشيات 8 آذار مقر قناة المستقبل أثناء غزوة بيروت التي نفذها حزب الله)، وربما إلى حد ما جريدة النهار، هي أصوات إعلامية تعبر عن قوى 14 آذار.

هل يعني ذلك أن هذه الوسائل تقدم نفسها على هذا الأساس، أنها لسان حال الجهة أو الحزب أو التيار الذي يملكها ويصرف عليها؟

ليس بالضرورة، ففي حالة قناة المنار، الأمر واضح، فهي لسان حال حزب الله، وكذلك الأمر مع قناة المستقبل، فهي تابعة لتيار المستقبل.

ولكن في حالة قنوات وصحف أخرى الأمر أكثر التباسا، ابرز حالة هنا هي حالة قناة إل بي سي وصحيفة النهار.

الفكرة هنا، هل تستطيع وسيلة إعلامية أن تكون مستقلة في خضم الصراعات العربية العربية، والصراعات الداخلية بين القوى السياسية والاجتماعية في كل بلد.

إذا وسعنا النظر خارج لبنان نرى الصراع الإعلامي على أشده بين قناة الجزيرة وقناة العربية، وهو صراع في بعض جوانبه مفيد للمتابع العربي لأنه يوفر له أكثر من طرح ورؤية في تغطية الأحداث في العالم العربي.

غير أن المسألة ليست تنافسا إعلاميا بحتا على السبق والمعلومة وكل مقومات التفوق الإعلامي بين وسيلة وأخرى، مع وجود هذا التنافس طبعا، المسألة لدى المشاهد العربي الذي يقرر، هو وليس غيره، أية وسيلة يريد أن يرى وأي صوت يرغب في الإصغاء إليه، إن كان من أنصار خطاب الرفض وجماعة خالد مشعل وحسن نصر الله وبقية الرفضويين، فحتما سيكون الريموت كنترول بيده مثبتا على شاشة الجزيرة ليخاطبه ضيوفها وبرامجها، بما هو مقتنع به سلفا، ويريد فقط من يمنحه الثقة بصواب اختياره.

وفي الجانب الآخر من لا يقتنع بطرح جماعات الرفض الأصولية والتيارات اليسارية والقومية، ويرى أنها تردد نفس الاسئلة وتجيب عليها بنفس الاجوبة، وتنسج ذات الشبكة من الأوهام المعتقلة للمجتمعات العربية عن الاقلاع الى سؤال التنمية والاستقرار. من يعارض نفس وروح هذه الجماعات ومن يدعمها، لن يكون من مشاهدي الجزيرة، لربما وجد بغيته او على الأقل طرفا من بغيته على شاشة العربية، فهو هنا يصغي إلى خطاب آخر، ويتنفس هواء آخر غير هواء الجزيرة.

القائمون على القناتين لا يوافقون على أنهم ميالون إلى جهة دون جهة او معسكر، ويحتجون بأن قادة وساسة ومثقفي كل معسكر عربي يظهرون على شاشتهم، وهذا صحيح، وهو من مقتضيات المهنية الإعلامية، وإن لم تفعل العربية والجزيرة ذلك، وهما أهم فضائيتين عربيتين على مستوى الأخبار، فمن يفعلها، ولكن في النهاية لا بد من لون ما يصبغ هذه القناة أو تلك، ولا بأس في ذلك، ولكن البأس كله في المشاهد العربي الذي يسلم عقله بكل ثقة واستسلام إلى أي ضيف او برنامج يفترش عقله ويأكل أذنه، دون ان يكون مشاهدا نقديا يميز بين المعلومة المجردة، التي لها القدسية في الإعلام، وبين الرأي الذي يظهر على شكل معلومة، ناهيك عن المشاهد، الذي يتحول الى طالب للخطب والهتافات على الشاشات.

لن أتحدث عن صحيفة «الشرق الأوسط»، لأني شهادتي ستكون مجروحة، ولكن حجم الجدل الذي يدور حول هذه الصحيفة من قبل «الممانعين» سواء في محتواها الإخباري المختلف او تحقيقاتها وقصصها، بلغ حدا يستحق ان يرصد من قبل الدارسين للدلالة على حجم التأثير الذي تمثله صحيفة «الشرق الأوسط» في المشهد الإعلامي والسياسي العربي، خصوصا انها صحيفة في مرحلة زحام فضائي.

بكل حال، فالإعلام كان وسيظل موضوع جدل، ما دام انه صار صانعا للحدث وليس مجرد ناقل له، والإعلام الذي كان مفردة أساسية في الحروب بالماضي، لم يتغير ولم يبدل وظيفته ولكنه صار أكثر احترافا وصار معنى الحرب أوسع من أن يقصر على أزيز المقاتلات الجوية أو المدافع، ولم تعد الحروب بين دول فقط، بل صارت الحروب في كل حقل من السياسة إلى الاقتصاد إلى الحروب الفكرية الاجتماعية، ويتغذى الإعلام على هذه الحروب كلها، ولنا شاهد عابر من الماضي، بالفيلم التسجيلي المصري، لسعد نديم «فليشهد العالم» الذي عرض في لندن أثناء حرب 1956 على مصر وبسببه ظهرت الصحف الانكليزية بعناوين مثل «امنعوا رائحة الدمار عن بريطانيا» واعتبر هذا الفيلم حينها جزءا من مجهود الحرب المصرية التي قادها الضابط عبد الناصر ورفاقه (الناقد علي ابوشادي، سينما وسياسة ص 45)، ومن 1956 جرت في ساقية الإعلام مياه كثيرة، فالأمور الآن أكثر تعقيدا، على مستوى التطور المذهل في وسائل الإعلام الحديثة والمتعددة، ومستوى المحتوى الإعلامي أيضا، مما يجعل حرب الإعلام مع نفسه قبل أي طرف آخر، ثم مع المتلقي ثانيا.

الإعلام لم يعد، وهو لم يكن أصلا كذلك، ناقلا أصم للحدث، بل صار صانعا له أيضا، ومادة للخبر ايضا، خصوصا مع أخبار الاغتيالات والملاحقات والتهديدات للإعلاميين، ولولا التطور الإعلامي والسرعة في نقل الحديث لما حظيت حرب غزة الأخيرة بهذا المستوى من التفاعل، باعتراف رجل من رموز النضال الفلسطيني، وهو رجل متعاطف مع حماس وحركات «المقاومة» باعترافه، رغم علمانيته، هذا الرجل هو المفكر والإعلامي الفلسطيني «أنيس صايغ» راعي مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فقد شاهدته في لقاء عقب حرب غزة، يتحدث في شاشة المستقبل اللبنانية، عن أنه، وهو الشيخ الكبير في السن، قد أدرك طرفا من الحروب والمآسي الفلسطينية، وقد سقط فيها كثير من الأطفال والنساء، ولكنه يعتقد أنه لولا التغطية الإعلامية المكثفة والمباشرة لقذائف الجيش الإسرائيلي في حرب غزة الأخيرة، لما حصل هذا التفاعل، فأنت كمشاهد، ترى القذيفة وهي تنطلق ثم تراها وهي تنفجر في مكان ما بغزة مطلقة ألسنة النار وأعمدة الدخان، بل ربما تسمع دويها، وبعد دقائق ترى الطفلة أو المرأة او الشيخ وهو للتو مصاب ودمه ساخن ينزف أمامك، وربما ترافق المصاب للمستشفى وتكون معه إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أو ينجو بعاهة، كل هذا تنقله لك الكاميرا لحظة بلحظة او تفصيلة تفصيلة، وكثير من قنواتنا العربية توغل في هذا النقل بحجة أن هذا سيحرك الجميع، دون مراعاة لمشاعر الأهل والضحايا، حتى انك لن تفاجئ إذا رأيت شابا أدرك سحر الإعلام يرفع جثمان الطفل الصغير ويهزه أمام الكاميرات، حتى يراه من لم يره.

كل هذه المعطيات الجديدة حولت الإعلام إلى صانع للحدث والتأثير، لأن المشاعر التي تتولد جراء هذه التغطية المكثفة، لا بد لها أن تصب في قنوات معينة، وهنا ننتقل من الإعلام إلى السياسة والفعل السياسي، ونعود إلى السؤال الأساسي: هل الإعلاميون ساسة أو نصف ساسة؟

وهو السؤال الذي طرح في المغرب كثيرا، بعد بروز صحف المعارضة الجديدة فيه، الأمر الذي دعا وزير الإعلام المغربي خالد الناصري إلى أن يقول إن الإعلاميين لا يجوز لهم أن يطلبوا منا أن نتعامل معهم كإعلاميين فقط، لأنهم أصبحوا من «الفاعلين السياسيين».

نسأل: لو كانت هذه التغطيات والقنوات، موجودة ابان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، وبعيدا عن تاريخنا المعاصر، ماذا لو كانت هناك كاميرات أيام الحروب الأهلية والحروب الإمبراطورية والمجازر المحلية في القرون السالفة، فهل كان سيتغير مجرى التاريخ، وتتغير أيضا صور الأبطال الرومانسية.

نسأل فقط حتى نعرف أية مرحلة بلغها إعلام «الفاعل السياسي» كما قال الناصري.