حتى لا نفقد الأمل في السلام: أعيدوا لمبادرة السلام العربية زخمها

TT

قد يقودنا المنطق والتجارب السابقة إلى الاعتقاد أن موجة العنف التي أثارها الهجوم الإسرائيلي على غزة ستتلاشى مع مرور الوقت، وأن الأمور ستعود إلى طبيعتها، ولكن هل سألنا أنفسنا: لماذا الأمر مختلف هذه المرة؟

قد تبدو المجزرة التي حدثت في غزة صورة مكررة لأحداث سابقة، هذا ما يبدو لنا على السطح، نعم على السطح هذا شيء تكرر حدوثه، فإسرائيل تستخدم مرة أخرى قوة وحشية لإخضاع أعدائها والإفلات دون عقاب، ولكن تحت هذا السطح يكمن جبل جليدي لا تراه عين المراقب العادي ما يفتأ يكبر ويكبر مع كل عدوان يرتكب ضد الفلسطينيين، وسواء أكان الحال للأفضل أم للأسوأ فإن الشباب اليائسين الذين يتملكهم الإحباط قد يخلصون إلى نتيجة مفادها أن النظام السائد في العالم حالياً عاجز أو أنه لا رغبة لديه في تطبيق قواعد العدالة العالمية على المظالم التي يتعرضون لها.

في الحقيقة أن الظروف اليائسة تؤدي إلى اجترار أفعال يائسة، وهنا تكمن مأساة غزة التي تمتد لتعم المشكلة الفلسطينية بأسرها، فخلال العقود الماضية وقف الفلسطينيون وسكان غزة على حقيقة أمرين:

أولهما أن المفاوضات التي جرت بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لم تحقق نتائج تذكر، وأن السياسيين الإسرائيليين الذين يتوقون لتحقيق مكاسب انتخابية تجاهلوا تماماً مبادرة السلام العربية رغم شموليتها.

وثانيهما أن حصار غزة وصل من الوحشية والقمع درجة بات الفرق فيها بين الحياة والموت ضئيلاً للغاية، فالآباء كانوا يرون أبناءهم يموتون من سوء التغذية وقلة الرعاية الصحية، وكان الأبناء يرون آباءهم يعانون من البطالة ويعتصرهم الحزن لعجزهم عن توفير المتطلبات الضرورية لفلذات أكبادهم، وأكثر من ذلك كانوا يرون العالمين العربي والإسلامي وهما يتابعان بغضب تردي الأوضاع في غزة بحزن شديد ولا حيلة لهما على تغيير مسار الأحداث الفظيعة، ولهذا كله باتت الساحة الآن جاهزة والظروف مهيأة لوقوع انفجار لم يعهد العالم مثيلاً له من قبل، وليس السبب في ذلك أن الناس قد ابتلوا في عيشهم أو أن الأمل (الذي لا معنى للحياة بدونه) قد تلاشى، أو أن مستقبل أجيال قادمة يبدو قاتماً، وليس حتى تبخر فكرة أن تكون للفلسطينيين دولة خاصة بهم مع كل رد إسرائيلي متعنت على أي اقتراح أو مبادرة فلسطينية وإنما كل هذه الأسباب وغيرها الكثير مجتمعة هي التي أوجدت المنعطف الأخير في الأحداث.

والآن على العالم أن يختار بين أمرين: إما السماح للفلسطينيين في أن يكون لديهم أمل ووطن خاص بهم أو مواجهة العواقب المحتومة.

قيل قديما إن التاريخ تدفعه عوامل من أبرزها اللحظات الحرجة، والرؤى الكاشفة واغتنام الفرص، وقيل أيضا إن الشرق الأوسط هو أرض الفرص المهدرة. فالرؤية والأمل بمستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين والعالم أجمع، قد تم استبدالهما بنوع من العقاب الجماعي، ربما لا يماثله عقاب، باستثناء ممارسات العصور المظلمة.

ويرتفع السؤال، هل كان من الممكن تجنب هذا العقاب؟ والجواب المؤكد: نعم كان بالإمكان اجتنابه.

لقد قدم العالم العربي، وعلى رأسه خادم الحرمين الشريفين، في مارس من عام 2000 ما أصبح يعرف عالميا بمبادرة السلام العربية، وقد استشرفت هذه الخطة الحصيفة السخية المطالبة بانسحاب إسرائيلي إلى حدود ما قبل عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، مقابل قيام علاقات طبيعية بين العرب وإسرائيل، في إطار سلام شامل.

لقد وجه الغرب على مدى العقود الستة الماضية كل اللوم والتقريع للعرب، لافتقارهم لمشاريع واضحة للسلام، وحين قدم العرب هذه المبادرة بالإجماع، تجاهلتها بمكر الإدارة الأمريكية السابقة وإسرائيل، ليس إذن مفاجأة أن يتبلور كثير من الشك، إن لم نقل السخرية، لدى الذين رأوا حلم السلام يختفي كما السراب.

إن تعاطف وتناغم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في السابق مع رغبات إسرائيل (حتى لو لم يكن هذا التعاطف في صالحها) ليس إلا تنازلاً عن المسؤولية الأخلاقية. وإسرائيل لا يمكنها أن تجمع بين النقيضين، كما أنه لا ينبغي اعتبار تغير القيادات السياسية عذرا لحرف مسار السلام والأمل!

كما هو معروف فإن الدم يولد الدم، والعنف في هذا الطرف يتغذى وينمو على الإجراءات والأعمال العدوانية المتطرفة التي يرتكبها الطرف الآخر، والمرء لا شك يخشى أن تكون النتيجة الحتمية لمثل هذه المآسي هي تحول البعض (رغم قلة عددهم)، من العرب والمسلمين المعتدلين وطالبي السلام إلى التطرف.

إن ردة فعل الغرب على ما ارتكبته إسرائيل من مآس شكلت خيبة أمل هائلة لنا نحن المتفائلين خيرا بمستقبل التعايش المشترك بين العالم العربي الإسلامي والغرب،

وإذ نستعرض الخراب والدمار الذي كان سابقا يُعرف «بغزة»، تبرز أمامنا حقائق لا ينبغي تجاهلها:

1. إن عمق وحجم الخسائر البشرية والمادية بلغ مدى هائلا، ولذلك ينبغي أن تتجه الجهود إلى مواساة الأطفال الذين فقدوا ذويهم، ومساعدة الآباء الذين فقدوا أطفالهم وممتلكاتهم الدنيوية. ولتقريب صورة الدمار هذه، يجب أن نتذكر أن ما نسبته أربعون في المائة ممن استشهدوا، وخمسون في المائة من الجرحى كانوا من النساء والأطفال.

2. إن هذه الحوادث أفرزت دافعا قويا وخطا مغذيا لمواقف التطرف، كما أن دعاة نهاية الكون، القائلين «بصراع الحضارات»، قد تقدموا لسوء الطالع، خطوة أخرى نحو تحقيق أحلامهم. يضاف إلى ذلك أن أبعاد المأساة وطبيعتها المغرقة في التشاؤم لا تشكل بالتأكيد عوناً للجهود الشجاعة الداعية لحوار الحضارات والأديان التي قادتها دول مثل المملكة العربية السعودية وإسبانيا وتركيا.

3. إن القضايا والقيم والدعوات الحميدة المتمثلة في حقوق الإنسان والديمقراطية قد تعرضت لضربة قاسية، أما القائلون بأن الغرب يتعامل بمعايير مزدوجة تجاه مختلف المناطق والقضايا فقد حققوا نصرا أكيدا.

4. ثمة درس يتكرر كثيرا لكن فهمه واستيعابه الصحيح نادرا ما تحقق مؤداه أن هناك حدودا لما يمكن أن يحققه الجبروت العسكري في مواجهة شعب يتسم بالإصرار أو يعاني من اليأس. والكثير من حكماء الإسرائيليين لم يستطيعوا فهم (ناهيك عن تبرير ما حدث) فقد أعرب اللورد ليفي في مقال نشرته مؤخراً صحيفة «ميل أون صنداي» البريطانية عن خيبة أمله حين قال: «إن التحدي الذي يواجهه كل شخص صدمه هول التكلفة البشرية للاقتتال الذي دار مؤخراً يجب أن يكون هو كيف نتعلم من أخطاء الماضي وإخفاقاته»، وهناك مقولة مأثورة في هذا الجزء من العالم تقول: «صديقك من صدقَك لا من صدّقك».

5. لقد بثت قنوات التلفزيون وشبكة الانترنت وموقع يوتيوب الأبعاد الكاملة لهذه الفاجعة الإنسانية، ونتيجة لذلك فإن رصيد إسرائيل من التعاطف العالمي أصبح الآن في أدنى مستوى له، فهذا ديفيد غروسمان، الروائي الإسرائيلي المشهور، يكتب في جريدة «الواشنطن بوست» الأمريكية: «إن ما حدث في غزة خلال الأسابيع الثلاثة ليضعنا أمام مرآة تعكس وجها من شأنه أن يرعبنا لو حدقنا فيه لحظة واحدة من الخارج، أو لو رأيناه يحدث لشعب آخر».

6. على إسرائيل أن تدرك أن العيش في هذا المنطقة، كما هي الحال في أي مكان، يتطلب شيئا من الحكمة والوعي بالمعاناة الإنسانية. والتاريخ يغص بالأمثلة، التي تؤكد حتمية انحسار النصرة الخارجية مع مضي الأيام، وأن الحصار هو ضرب من ضروب الحرب تحت أي مسمى كان.

7. لقد توسم الناس في أنحاء العالم خيرا بإصرار الرئيس أوباما على معالجة القضية بشكل عاجل ووضعها على رأس أولوياته، ولن نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن خطة السلام العربية هي العنوان المناسب والرؤية السديدة ، وإن دعم المجتمع الدولي الكامل لها، أصبح ضرورة ملحة. ولعل مما يبعث على الأمل أن كلا من الولايات المتحدة والعالم العربي لا يعانيان شحا في القيادات المتمتعة بالرؤية والحكمة والاعتدال. والرئيس أوباما والملك عبد الله من أبرز هذه القيادات. فمؤخراً خاطب خادم الحرمين الشريفين القمة العربية التي عقدت في الكويت قائلاً: إخواني قادة الأمة العربية: «يجب أن أكون صريحاً صادقاً مع نفسي ومعكم فأقول.. إن خلافاتنا السياسية أدت الى فرقتنا وانقسامنا وشتات أمرنا.. باسم شعوبنا التي تمكن منها اليأس أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا وأن نسمو على خلافاتنا.. ومن هنا أسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعاً أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف، وفتحنا باب الإخوة العربية والوحدة لكل العرب دون استثناء أو تحفظ وأننا سنواجه المستقبل بإذن الله نابذين خلافاتنا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص»، وقبل ذلك بساعات قليلة فقط رددت كلمات الرئيس أوباما في خطاب تنصيبه صدى هذه الروح الكريمة حين قال: «لقد اخترنا الأمل لا الخوف، ووحدة الهدف لا الصراع والتشتت». لكن هذه المبادرة، كما أشار خادم الحرمين الشريفين، لن تبقى على الطاولة إلى الأبد. كما أن إشارة الرئيس أوباما الموفقة إلى الاحترام والمصالح المتبادلة بين الغرب والعالم الإسلامي هي مكون أساسي لأي توجه يعالج القضية. وما تعيينه السيناتور جورج ميتشل، بما يتمتع به من سجل حافل في حل الصراعات، إلا بشيرا مشجعا لحل عادل ومتوازن لهذا الصراع الأكثر تعقيدا في العالم. إن مصداقية الرجل وحياديته وخبرته العملية كلها أمور حاسمة. وكما قالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون: «لدينا الكثير من الخراب الذي يقتضي الإصلاح».

وختاما، ورغم ما يذهب إليه الكثيرون من أن عملية السلام قد انتهت أو أن حظوظها حالكة القتامة، فإن هذه الحلقة الدموية في الصراع العربي الإسرائيلي يجب أن تؤكد إصرار المجتمع الدولي على السعي نحو حل نهائي. فالمحاولات السابقة قد فشلت لأن البعض تخاذل في اللحظة التي اقتضت إصراره على اتخاذ المسار الصعب نحو حل عادل. وفي رأيي المتواضع، فإن الطريق نحو الحل الشامل يتضمن العناصر التالية:

1. على إسرائيل أن ترفع حصارها الجائر على غزة حالا، وتعلن عن تعويضات كاملة للضحايا، ولعل هذا يتساوق مع اعتذار صريح والتزام كامل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الوسائل الجائرة.

2. على إسرائيل أن تعلن قبولها الواضح وغير المشروط بخطة السلام العربية كاملة، بوصفها أساساً للمفاوضات الهادفة.

3. على المجتمع الدولي أن يصر على إعادة عقد مؤتمر مدريد بصورته الأصلية لكونه الوسيلة المناسبة والضرورية لأية وساطة وتحكيم، وتنفيذ حل شامل ونهائي، متضمنا الإطار الزمني والعوامل الإجرائية لجعل الحل واقعاً معاشاً.

4. على المؤتمر في النهاية أن يصادق على عناصر الحل، وتحديد الأسس والموارد الضرورية التي يقتضيها التنفيذ. إن وصفات السلام التي تتمتع بإمكانات النجاح كثيرة وهي تنبع مما للخيال الإنساني من حكمة وتجربة، غير أن الفاقة تكمن في ضعف الإرادة لتبنيها (لدى البعض).

والآن، إذ تضع الحرب أوزارها (أو هكذا يبدو الأمر) فإن علينا أن نعي أن هذه الأزمة تختلف كثيرا عن كل ما سبق أن عاشته هذه المنطقة المنكوبة. ومن المحتمل أن تمتد نتائجها المأساوية ليس فقط إلى من هم معنيون بها مباشرة، بل إلى العالم أجمع. كما أن فوائد السلام وكذلك ثمن الحرب المروعة قد يتقاسمه بالتساوي سكان كوكب يصغر وتقترب أطرافه من بعضها البعض بشكل متزايد، فالحل العادل والشامل والمنصف لم يكن أبداً (ولا يجب أن يكون) مجرد خيار ضمن عدد من الخيارات وإنما هو ضرورة لا مناص من التعامل معها، .. ها هي ساعة مواجهة الحقيقة تدق بقوة في غزة مذكرة إيانا أن التاريخ لن يمهلنا طويلاً.

* كاتب سعودي