الانتفاضة الكبرى آتية

TT

انتفض عرب العراق فساندوهم (الشرق الأوسط 26 – 8 – 2008)

كان عليّ أن أقول «انتفض العراقيون...»، لكن خصوصيات الموقف قادت إلى العنوان السابق. أما اليوم فقد تخطى العراقيون المسميات الخاصة، ولم يعد هناك خوف (كبير) على وحدة بلدهم، وقوة نسيجهم. بعد أن اندمج العرب وكثير من أبناء العشائر الكردية في قائمة تلاحم وطني في الموصل، أعادت المعادلات إلى واقعها الأساسي، حيث تشير النتائج إلى تفوق ساحق، لمصلحة وحدة العراق، بعيدا عن المغريات ومنطق المفاصلة والتحزبات الضيقة، وجرى التخلص من إرهاصات الوضع في ثاني أكبر محافظة. لم تعد موضع جدل يشغل حيزا من جهد التخلص من تبعات ما بعد سقوط النظام.

وبعد أن أثبت عرب الجنوب أنهم حريصون على وحدة العراق، ولم يكن الأمر متعلقا بالعشائر فحسب، بل شمل الشرائح الأخرى، وبرهنوا على أن انطلاق الأحزاب القومية من الجنوب لم يكن حدثا طارئا أو مبالغا فيه، وأن محاولات ربطهم بالتوجهات الإيرانية بددتها أول فرصة أتيحت لهم للتعبير عن التمسك بهويتهم الوطنية الوحدوية. وتجسد ذلك في الفشل الذريع الذي مني به أصحاب فكرة إقليم البصرة وغيره من الأقاليم. ودحضوا ثقافة العزلة والتقوقع والمفاصلة، ورفضوا إغراءات المال، المبنية على أساس أنهم يعيشون على أرض من أغنى مناطق العراق، وأهمها موقعا جغرافيا، مقابل وحدة بلد ورثوه هكذا منذ القدم.

المتحقق حتى الآن كبير وفق كل المقاييس، بعد كل الخبث المخابراتي والنشاط المحموم لفيلق الإرهاب الإيراني، ومن تبعه أو نفذ برامجه في العراق، وفي المقدمة منهم تنظيم القاعدة، الذي عمل ما في وسعه لتفكيك النسيج الوطني العراقي، إلى جانب فرق الموت الإيرانية. وقد كنا على حق كبير عندما شجبنا كل فعل استهدف الإنسان، خصوصا تلك العمليات التي استهدفت إثارة التناحر على أسس طائفية. ولم يفهم البعض ذلك التوجه في حينه، حيث أريد للأفعال السيئة لبس لباس المقاومة زيفا، أو رد الفعل من جانب آخر. ولم يكن المتحقق عملية انقلاب سببه النقص في الخدمات الحياتية، ومن يربط الحالتين معًا يسير في ركب إخفاء الجانب الوطني.

أما من يربط التاريخ بيوم حشر الانتخابات، على رغم عدم تحقق النسب المفترضة في عدد المقترعين، فتظهر أمامه سطحية التصورات ونسجها المفكك، في توصيف مشاركة أبناء الوسط والجنوب في المعارك الدفاعية من حرب السنوات الثماني، بأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وحيثما أتيحت لهم الفرصة غادروها. فالواقع أن قادة كبارا شغلوا مناصب قيادية عسكرية عليا وحساسة جدا، كانوا من أبناء الجنوب والوسط (الشيعة). كما أن القول بأن «معظم» البعثيين قد انتموا إلى حزب البعث مجبرين، هو تبسيط آخر لحقائق الأمور، فقادة البعثيين الأوائل والقوميين كانوا شيعة من قلب الجنوب.

والآن أثبتت الأحداث أصالة أبناء الجنوب، وأنهم لا يقلون وحدوية عن أبناء المناطق الأخرى، بل هناك من يراهن على حصولهم على درجة امتياز، وبالطبع لكل حالة شواذ. وعلى الرغم من صعوبة القول إن التخندق الطائفي قد انتهى من جذوره، فالقاسم الوطني المشترك كفيل بتعزيز ثقافة الابتعاد عن الطائفية خطوة خطوة، تتزايد وتيرتها بمرور الوقت، إذا ما بقيت حالة التيقظ مستمرة تجاه المؤامرات الداخلية والخارجية، فالمتآمرون من الداخل لا يقلون شرورا عن مخططي الخارج.

ولعل من أهم دروس الانتخابات الأخيرة، الربط بين حركة التصويت، وحقيقة الأسباب التي دفعت مئات آلاف «الشيعة» إلى التوجه إلى الدول العربية خلال مرحلة العنف المفرط في العراق، سوريا والأردن ومصر والخليج، بدل التوجه صوب الشرق (إيران)، لتبرهن غرائزهم أصالة الانتماء إلى المحيط العربي، والآن بدت الصورة واضحة لمن كان يجهل أسبابها الحقيقية، فالساعي إلى الأمن المؤقت كان ممكنا أن يحصل عليه في إيران أيضا.

لا أريد أن أفرط في الآمال والتمنيات للعراقيين، ولمن يعرف قيمة العراق ويقلق على مصيره، لكن المؤشرات تدل على أن حقيقة برزت إلى الوجود، جديرة بالدرس والتطوير، وتحتاج إلى الدعم المعنوي والسياسي، والإعلامي، وهو الأهم. وعندما يكون الدعم عربيا يكون أثره قويا على كل مدى. وسيشكل العام الجاري مفصلا مهما من مفاصل مستقبل العراق، لأنه سيشهد نشاطات كبيرة، ومؤامرات خطيرة، تستهدف التأثير على سير الانتخابات البرلمانية المقررة نهاية العام. وإذا كانت الانتخابات البلدية الأخيرة قد رسمت ملامح وحدة العراق ورفض برامج الشرذمة، فسيكون البرلمان الجديد بابًا للمستقبل، كلما ارتفع واتسع تقلصت مرحلة القلق وتسارعت خطوات الانفتاح المتبادل بين العراق والمحيط العربي. هذا ما على العرب.

أما ما على العراقيين، فلا بد من التفكير الجدي في زيادة نسبة التصويت، والتصدي لكل من يحاول العمل على عرقلة الانتخابات المقبلة أو التشكيك في شرعيتها، لأن ضرر التشكيك يقع على القوى الوطنية وحدها، ومن يرد أن يفتي فعليه الإفتاء بعدم جواز التخلف عن الاقتراع، وأن يتجنب ذكر اشتراطات، ولو أني أظن عدم بقاء أحد لديه استعداد للاستماع إلى ما يخالف ذلك بعد التجربة المريرة في غياب التمثيل المتوازن في المؤسسات التشريعية، وما أدى إلى تعقيد كبير في بناء الدولة، وغياب التوازن في اتخاذ القرارات وهدر للحقوق.

ومما ينبغي الحذر منه، أن يعمل النظام الإيراني على تصعيد دوره السلبي في الحياة اليومية للعراقيين، بالاتفاق مع أطراف داخلية، خصوصا في ظروف انسحاب أميركي متسارع محتمل، ومحاولة العودة إلى خلخلة الأمن، لتخويف الناس من الحضور الواسع في الجولة الآتية، وعرقلة عودة النازحين من العراق إلى ديارهم، لما لهم من تأثير فعلي على النتائج الانتخابية.

عشرة أشهر كافية لولادة أفضل، أقرب ما تكون إلى انتفاضة انتخابية كبرى، تضع العراق على طريق قويم. فكلما كان التمثيل في البرلمان انعكاسا للمشاعر الوطنية، وكلما أمكن حذف حروف (ش، س، ك، ت...) من الأبجدية السياسية، يصبح العراق في وضع آخر. فالدين لله والعِرْق ليس امتيازا، والوطن للجميع.

[email protected]