البابا وصناعة الهلوكوست

TT

أثار قرار البابا بنديكتوس السادس عشر بإعادة أربعة كهنة متزمتين إلى حضن الكنيسة الكاثوليكية ضجة كبيرة في الأوساط الأوروبية. نقول ذلك وبخاصة أن أحدهم وهو البريطاني ريتشارد ويليامسون كان قد فجر قنبلة موقوتة عندما أدلى بتصريحات مضادة للمحرقة اليهودية الشهيرة التي تمت على يد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد اعتبر الكثيرون تصريحاته خطرة لأنها تؤيد أطروحات التحريفيين الأوروبيين الذين ينكرون حصول المحرقة أو قل يخففون من آثارها. ماالذي قاله هذا الرجل؟ شيئين اثنين، أولهما أن البراهين التاريخية تكذب بقوة الأطروحة التي تقول بأنه تم حرق ستة ملايين يهودي في غرف الغاز بناء على سياسة متعمدة من قبل أدولف هتلر. وثانيهما بأنه مات في معسكرات الاعتقال النازية ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف يهودي فقط وليس ستة ملايين كما تزعم الرواية الرسمية السائدة. ثم انه لم يمت منهم يهودي واحد في غرف الغاز المزعومة.

هذه التصريحات أحرجت البابا كثيرا فاضطر إلى إصدار بيان بإدانتها والتذكير بموقف الكنيسة الكاثوليكية من الموضوع. ودعا الكاهن المذكور للتراجع عن تصريحاته وإلا فإن الفاتيكان لن يرفع عنه تهمة التكفير أو الخروج على الكنيسة. وهنا دخلت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل على الخط لكي تندد بالكاهن المنشق وتدعو البابا إلى المزيد من الحزم تجاه منكري المحرقة اليهودية. البعض اعتبر بأنها تزايد على البابا يهوديا وانزعج من انتقاداتها له. نقول ذلك على الرغم من أن العقدة الألمانية من النازية تجمع بينها وبينه لأن كليهما ألماني.

السؤال المطروح هنا هو التالي، لماذا أعاد البابا هؤلاء الكهنة الأصوليين المتزمتين إلى حظيرة الكنيسة بعد أن كان سلفه يوحنا بولس الثاني قد فصلهم منها منذ عشرين سنة؟ من المعلوم أنهم ينتمون إلى فئة متشددة ويمينية جدا داخل الكنيسة. وهي الفئة التي كانت قد رفضت الثورة اللاهوتية التحررية التي دشنها المجمع الكنسي المشهور باسم الفاتيكان الثاني، الذي انعقد بأمر من البابا الليبرالي المستنير يوحنا الثالث والعشرين بين عامي 1962. 1965. وهو المجمع الكنسي الذي تخلى إلى حد كبير عن لاهوت القرون الوسطى وتبنى لاهوتا جديدا ومقررات شديدة الجرأة والعقلانية. أو قل إنه صالح بين الكنيسة الكاثوليكية وفلسفة التنوير والحداثة بعد طول مقاومة وعرقلة للاكتشافات العلمية والفتوحات الفلسفية. أفتح قوسا هنا وأقول، ليت الإسلام يقوم بثورته الفقهية التحررية مثلما فعلت الكنيسة الكاثوليكية ويخلصنا من لاهوت القاعدة التكفيري والإرهابي. هذا ما يتمناه كبار المصلحين والعقلانيين المسلمين ويتوقعون حصوله يوما ما لكي يتصالح الإسلام مع الحداثة ويحصل التحرير الكبير.

من المعلوم أن الفاتيكان الثاني خرج على الثوابت اللاهوتية المسيحية إلى حد كبير عندما اعترف بالحرية الدينية أولا، وعندما اعترف بالأديان الأخرى غير المسيحية ثانيا وبخاصة الإسلام واليهودية بالإضافة إلى البوذية والهندوسية. فلأول مرة دعا إلى طي صفحة الخلاف الأليمة مع المسلمين واحترام عقائدهم لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وبقية القيم الروحية والأخلاقية العليا مثل المسيحيين. لقد مشى خطوة رائعة باتجاه الإسلام وقد أثلجت الصدر. ثم قال هذا المجمع الإصلاحي الليبرالي الشهير بأن الإيمان لا يفرض فرضا على الإنسان من الخارج أو من فوق. وبالتالي فإذا لم يكن نابعا من الداخل وعن اقتناع شخصي فلا معنى له. وهذا يشبه الآية القرآنية الكريمة، لا إكراه في الدين. وبالتالي فيحق لأي إنسان أن يؤمن أو لا يؤمن دون أن يتعرض إلى أي أذى أو مضايقات في الحالة الثانية. فهذه مسألة بينه وبين ربه وهو الذي يحاسبه عليها ولا يحق لأي مخلوق على وجه الأرض أن يحاسبه. بل ووصل الأمر بالمجمع المذكور إلى حد فتح سكرتارية خاصة للحوار مع غير المؤمنين باعتبار أنهم بشر لهم كرامتهم الشخصية رغم الاختلاف العقائدي معهم. فقد يكونون مؤمنين بالفلسفة الحديثة ولكن ليس بالدين المسيحي. وهذا من حقهم. وعلى أي حال فقد أصبحوا أكثرية في بلدان الغرب المتقدمة.

عندما دعاني برنامج نقاش في التلفزيون الفرنسي القسم العربي للتحدث عن الموضوع خشيت من استغلال هذه الزوبعة لأسباب سياسية. وقلت بأنه في كل مرة يشعر فيها قادة إسرائيل بالحرج نتيجة سياستهم الظالمة ضد الفلسطينيين تثار مسألة المحرقة في الغرب لصرف الأنظار عنهم. وبما أنهم محرجون جدا الآن أمام الرأي العام العالمي بعد محرقة غزة فقد ساعدهم الإعلام الغربي عن طريق فتح موضوع المحرقة اليهودية. وقلت بأن ذلك يندرج داخل استراتيجية عامة اتبعت بعد عام 1967. وقد فضحها المفكر الأميركي اليهودي نورمان فنكلشتاين الذي هو أحد أبناء المحرقة الناجين. فقد أصدر كتابا شهيرا بعنوان، صناعة الهلوكوست، تأملات حول الاستغلال السياسي لآلام اليهود. لقد آن الآوان لوضع حد لهذا الابتزاز السياسي. وما على قادة إسرائيل إلا أن يعترفوا أخيرا بحقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة على أرضه أو ما تبقى منها. وعندئذ لا يعودون مضطرين في كل مرة لاستخدام موضوع المحرقة النازية من أجل التغطية على سياستهم الإجرامية والتوسعية الاستيطانية السرطانية داخل الأراضي الفلسطينية. وعندئذ ينتهي أيضا هذا الصراع الجهنمي الذي طال أكثر مما يجب. وهذا هو الشرط الوحيد والأساسي لتحقيق المصالحة العربية اليهودية يوما ما وفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة.