وليس موراليس كأوباما

TT

أوحى وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض بأنه مشابه لوصول رجل من الهنود الأصليين إلى الرئاسة في بوليفيا، وهي مقارنة مختلة وإن بدت من حيث ظاهر الأشياء جائزة؛ ذلك أن مسيرة أوباما سمحت بها قواعد اللعبة الديمقراطية في الولايات المتحدة، المقبولة طوعا من لدن الأميركيين، بينما مسيرة موراليس تبدو معاكسة، على الأقل لنصف البوليفيين. في الحالة الأولى يتعلق الأمر برجل هو جزء من النسق، وفي الثانية يتعلق الأمر بخلخلة النسق القائم.

وقال إيفو موراليس يوم انتخابه رئيسا في يناير (كانون الثاني) 2006 إن البوليفيين قد أحرزوا لأول مرة استقلالهم يوم انتخبوه هو كواحد من السكان الأصليين، وهذا نفي لنحو مائتي سنة من التاريخ الذي يمتد منذ سنة 1825، حين استقلت عن إسبانيا على يد سيمون بوليفار، الرجل الذي أعطى البلاد اسمها. وينطوي ذلك التأكيد على نفي آخر وهو النصف الثاني من البوليفيين، الذين هم من أصول أوروبية، والذين عمرت بهم البلاد منذ 1535، وهو تاريخ بدء وصول الإسبانيين إلى البلاد. ومن أتعس الحالات أن يكون على المرء أن يستنجد بحكمة سليمانية للبت في معضلة مثل التي يطرحها السؤال: هل الوطن ملك لواحد وخمسين في المائة أم لتسعة وأربعين؟ لكن هذا المنطق هو الذي يملأ الشارع البوليفي الآن.

هناك حقوق وقع دوسها، وتتطلب الإنصاف والتصحيح، للسكان الأصليين الذين زحف عليهم الرجل الأبيض الوافد من أوروبا، ونزع منهم أراضيهم ومحا لغاتهم وطمس دياناتهم، وزرع في المجتمع والدولة مفاهيمه هو في تنظيم المعاملات والعلاقات. وفي أذهاننا جميعا أن أميركا اللاتينية هي جزء الغرب، أو قل إنها العالم الثالث للغرب.

وليست بوليفيا مثالا فريدا، ففي البرازيل محميات يحشر فيها السكان الأصليون ليعيشوا بدائيتهم، طلقاء في الطبيعة مع حيواناتهم، ويحظر على الرجل الأبيض أن يقتحم عليهم مناطقهم. وينص القانون البرازيلي على أن الواحد منهم إذا ما ارتكب جناية خارج تلك المحميات لا تتم متابعته باعتباره غير راشد. وهناك مؤسسة ترعى شؤونهم وتحمي حقهم في أن يتعاملوا بشرائعهم.

بينما نجد أن عددهم في الباراغواي وازن في التركيبة الدموغرافية، واندماجهم في الحياة السياسية فاعل، ولهذا فإن لغتهم الأصلية معترف بها كلغة ثانية، وتصدر الجريدة الرسمية للدولة بالإسبانية وبالغوارانية.

وفي البيرو كان الرئيس طوليدو قد التمس، كحلّ للإشكال التاريخي المتمثل في تهميش الهنود، اقتراح مخطط إصلاحي يقر اللامركزية، وفشل ذلك البرنامج في استفتاء سنة 2005 لأن الطبقة الحاكمة استمرأت النسق المركزي للدولة. وفشل بعد ذلك في الانتخابات رجل من قبائل الإينكا، أولانطا هومالا، عسكري وماركسي مطرود من الحزب الشيوعي، كان برنامجه الانتخابي يتحدث بنبرة عالية عن تهميش السكان الأصليين. وتفوق عليه الأبيض ألان غرثيه الرئيس الحالي.

وكانت قد اجتمعت في طوليدو صفتان، الأولى أنه من أصل هندي، والثانية أنه من طبقة فقيرة مهمشة. والفرق بينه وبين موراليس هو أن هذا الأخير وصل إلى الحكم بالذات كنتيجة لحشد الناخبين من بني جنسه تحت مظلة الثأر للسكان الأصليين.

وربما كان فشل المقاربة الإصلاحية للرئيس طوليدو في البلد المجاور لبوليفيا قد حفز موراليس على صياغة أولوياته، بمجرد انتخابه رئيسا في سنة 2006. ويعزى التطور الحاصل في بوليفيا إلى التأثر بالمفاهيم التي زرعتها النظرية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، من خلال المعهد اللاتيني للأبحاث الاجتماعية ILDIS. فابتداء من سنة 2000 بدا التمرد على الأفكار النيوليبرالية التي انتشرت في العالم، كرد فعل على النيوليبرالية التي استحدثت كمبرر لفرض «مقترحات» البنك الدولي التي شكلت عاملا جديدا، فقد كانت هي الأداة لبناء شرعية جديدة لما سمي بالمجتمع المدني، والإقناع القسري باقتصاد السوق وتعميم الديمقراطية الليبرالية، وما تبع ذلك من مفاهيم زينت تقبل المخططات العابرة للحدود، تكملة لعمل الشركات العابرة للحدود، وجماعات الضغط العابرة للحدود والنشيطة في ذات الاتجاه.

وقد ذكر أحد المحللين بأن نائب الرئيس البوليفي الحالي ألفارو غرثيه هو منتوج نما في مشاتل «الإيلدس» السابقة الذكر. وهناك من ربط بين الثورة الموراليسية الهادفة إلى «تغيير الشكل الموروث للدولة المركزية التي يسيطر عليها البيض»، وبين التحرك الحثيث نحو «تحرير بوليفيا من النسق المستمر منذ خمسة قرون»، أي أن المجاهرة بأنه «آن لبوليفيا أن تعود للبوليفيين» تنم عن نبرة عنصرية حادة. ذلك أن الحديث بعد خمسة قرون عن حصر «الأمة البوليفية» في نصف تعدادها، واعتبارها ممثلة في السكان الأصليين وحدهم، يماثل التحضير لإحداث زلزال مدبر.

لم يتوان موراليس عن تجميع المتقبلين لمقولاته في حزب «الحركة من أجل الاشتراكية» عن التوجه منذ اليوم الأول إلى تغيير الدستور في اتجاه تغيير أسس الدولة، وقاد ثلاث مسيرات للسكان الأصليين نحو ليما العاصمة، للمناداة بتغيير نظام ملكية الأراضي، واعتبر ذلك تعبيرا عن رغبة في إعطاء الصدارة للأفكار «الإنديجينية» التي يجب إحلالها محل الأفكار الغربية المستوردة، في ما يخص توزيع السلطة والثروة. ويشار بالمناسبة إلى أن القبائل الأصلية لا تقل عن 36 مجموعة.

وللوصول إلى ذلك عمل موراليس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 على اتخاذ مشروع دستور يتضمن أفكاره بهذا الصدد، من خلال مجلس تأسيسي تم انتخابه لذلك الغرض. وتمت المصادقة بحضور نواب حزبه فقط (138 من بين 255)، وذلك في جلسة عقدها المجلس التأسيسي بمن حضر في مدرسة عسكرية، بينما كانت تجري مواجهة في الشوارع نتج عنها قتلى وجرحى.

وأمتن حجة في يد موراليس وحزبه أن السكان الأصليين يمثلون 60 %، وهو يقول إن ما يرمي إليه هو تصحيح خطأ وقع منذ وصول الإسبان، وإنه لا بد من العودة إلى التقاليد الأولى من حيث ملكية الأراضي والملكية الجماعية للثروات الطبيعية ووسائل الإنتاج، ولا بد من تقسيم ترابي جديد.

وردا على ذلك أعلنت 5 أقاليم استقلالها الذاتي، وهي الأغنى من حيث منابع الطاقة (الغاز). ونشأ انقسام هدد بوجود نسقين مؤسسيين في البلاد، وزاد في تأزم الأوضاع إصرار الرئيس موراليس على أن ينتزع المصادقة على مخططه الدستوري باستفتاء شعبي، وهو ما تم في الأسبوع الماضي. وقد حاول رؤساء الدول المجاورة أن يتدخلوا لعلاج الوضع، لكن لم يتوصلوا إلا إلى تهدئة يبدو أنها كانت مؤقتة، ولكن ميول موراليس هي نحو جاريه كوريا في الإكوادور وتشافيز في فنزويلا.

إن ما يجري في المنطقة علامة على أن ريح التغيير التي تهز الأوضاع فيها ستشمل الدولة والأمة ومفاهيم أخرى شائعة في السياسة والفكر، وهذا أمر يجب أن نتابعه. وإني أحرص على أن أقترب في هذه الصفحة، مرة أو مرتين في السنة، مما يجري هناك، رغم أنه لا يمر يوم دون أن أقرأ أو أتصفح نصا يتعلق بتطور أوضاعها. إنها منطقة هامشية، نعم، ولكنها تتحرك.

وبمناسبة انعقاد ندوة دولية منذ أيام، صرح الرئيس السابق لـ«أمنيستي إنترناشيونال السنغالي صاني»، والمسؤول حاليا في اليونسكو، بأن «أميركا اللاتينية مختبر للأفكار والتغييرات في أفق المستقبل». وأشار بالذات إلى وصول أول هندي إلى الرئاسة في بوليفيا، بعد أن وصل إلى الرئاسة في البرازيل عامل يدوي.