شهَرْبان.. بضاعتها الرُمَّان!

TT

لعلها مفاجئة أن تظهر سميرة أحمد جاسم مجندة للانتحاريات من بساتين شهَرْبان، ذلك لمن عهد في العراقية أم العباءة العاطفة السخية، واليد الكادحة، وهي تواجه المعسرات من الأحوال، ولولا تحملها ما أبقت ولا ذرت الحروب وسنين القسوة، وما أتى بعدها من أهوال، من زرع ولا ضرع للبلاد. وما عهده زائر شهَرْبان أنها حاضرة عامرة ببساتين الرمان، ما «ليس له مثيل». وهي ما تحمل أذى السفر لزيارتها الملا عبود الكرخي (ت1947) فقال: «من المحطة لشهَرْبان.. قَدم أضرب يا جبان»!

لكن، الأيام تأتي بالعجائب «حتى صار ليس فيهن عجائب»، وتتبدل بضاعة شهَرْبان من الرُمَّان الريان، الباطنه غذاء وقشره دواء، إلى أدوات الموت الجماعي، حيث حصدت الانتحاريات، اللواتي صدرتهن سميرة (أم المؤمنين)، المئات من البشر. وترى تجار الإرهاب من الإسلام السياسي وضعوا الانتحارية سهيلة المقدادية بموضع الصحابية أم عمارة نسيبة الأنصارية (ت13هـ)، وهي التي شهدت بيعتي العقبة والرضوان، وجرحت في حرب اليمامة (ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب). وزينوا فعلتها بالعبارة «عليك الرحمات يا أُمنا سُهيلة»! وتفاخروا بشعارهم: «ما بين سُهيلة بنت المقدادية ونَسيبة الأنصارية أمة لا تموت»! كان ذلك عندما تمكنت الجماعات الأصولية من شهَرْبان، بقتل قائم المقام، واختطاف مدير الشرطة، وتحرير قتلة من المعتقل، وقيام معسكراتهم تحت ظلال بساتينها!

تحفل شهَرْبان، مثلها مثل بقية حواضر العراق وقراه، بتاريخ عتيق: وجدها ياقوت الحموي (ت626هـ) «قرية كبيرة عظيمة ذات نخل وبساتين من نواحي الخالص في شرقي بغداد، وقد خرج منها قوم من أهل العلم» (معجم البلدان). وقبل هذا ذكرها أبو حيان التوحيدي (ت414هـ) وهو يفاخر بأرض السواد، أي العراق، ويحط من قَدر أصبهان في العمق الإيراني: «هل تسمع في سواد أصبهان ما يشبه البردان، والراذان، والنهروان... وباعقوبا وشهَرْبان...»؟!(الرسالة البغدادية).

واُختلف في أصل الاسم، مَنْ قال: «مدينة المرأة»، فمعنى شهر مدينة، وبانو المرأة أو ربة البيت! ومَنْ قال: هي مدينة الأميرة (بانو) ابنة آخر ملوك الفرس يزدجرد! وغير هذا (بابان، أصول أسماء المدن العراقية). ولشهَرْبان تاريخ في ما جرى من حروب بين الخلافة العباسية وسلطنة السلاجقة، ثم ما بين العثمانيين والصفويين! ذكرها صاحب «الكامل في التاريخ» في حوادث السنتين (496) و(549) الهجريتين.

وورد في تبدل اسمها إلى المقدادية نسبة إلى دفينها الصحابي المقداد بن الأسود (ت33هـ)، وهو توهم بقبر مقداد آخر وهو الشيخ مقداد بن محمد الأسدي (ت826هـ). فالمقداد الأول مات بعد فتح مصر ودفن بالمدينة (الاستيعاب...).

ومع ذلك لا يستبعد أن الحكومات العراقية سعت إلى تبديل العديد من أسماء المدن والقرى، بدافع التعريب، فبلدة قزلرباط، القريبة من شهَرْبان أصبح اسمها السعدية، نسبة إلى الصحابي سعد بن أبي وقاص، ناهيك من بلدات بالموصل وكركوك وديالى.

ويبدو أن المعارك ضد (المقاومة) انتقلت إلى شهَرْبان بعد تصفية أوكارها بالفلوجة، وأن مقتل أبي مصعب الزرقاوي (2006) ببلدة هبهب، من تابعات محافظة ديالى، مؤشر إلى بناء خلايا بالبلدات ذات ظلال البساتين الكثيفة، حيث ورد في اعترافات أم الانتحاريات، مثلما عُرفت في وسائل الإعلام، أنها تقود ضحياتها إلى البساتين، ومن هناك ترتب عملياتهن.

فهناك مَنْ أطلق على شهَرْبان، أو المقدادية، تسمية «الفلوجة الجديدة»! وبالفعل دارت فيها معارك شرسة مع الجماعات المسلحة، حتى تحول سوقها المركزي إلى قاعدة عسكرية أمريكية، والقتل فيها كان قتال شوارع، ومنها يجند الانتحاريون رجالا ونساء. إلى جانب ذلك تعرضت إلى مواجهات طائفية، وتصفيات عرقية. إلا أنها لم تأخذ شهرة الفلوجة، التي برزت عمورية عصرها، واقترنت بفالوجة فلسطين، في وسائل الإعلام المنحازة بلئم إلى الجماعات المسلحة. لكن، مَنْ ينظر إلى الفلوجة، اليوم، وهي تختار إدارتها في الانتخابات الأخيرة، ويتسلم شبابها ملفها الأمني سيجدها أجمل بلا تلك الجماعات!

ختاما، لاتبدو ظاهرة الانتحاريات العراقيات، تنشد الاستقلال من احتلال، بقدر ما كانت محاولة للخلاص من معاناة ثقيلة، فاللواتي تم اصطيادهن لا فرق عندهن بين الحياة والموت، لعوز وفاقة، وتراكم مصائب. أقول: من الخطأ بمكان التستر على تلك المظاهر بالإعلان عن جنون القادمات على تفجير أنفسهن، مثلما يرد في البيانات الرسمية. وأحسب أن من المآسي الحياتية، التي يشغل عنها وزراء الدولة وموظفوها مواسم السفر المترف، والعيش الراقي، والمحاصصة بالمكاسب من المال السائب، ما يكفي لتجنيد قوافل من الانتحاريات والانتحاريين! وتحويل مدن عامرة، مثل بلد الرمَّان والسياحة شهَرْبان، إلى ما هو الحال عليه!

[email protected]