العوض على الله

TT

في يوم ربيعي مشرق، وكنت يومها في أحسن حالاتي مقبلا على الحياة غير مدبر، والدليل على ذلك أنني كنت أترنم بأغنية (الحياة حلوة) خلال سيري، أو بمعنى أصح خلال (صرمحتي) في أحد الشوارع الفسيحة في بلد أوروبي، الواقع أنني كنت بالفعل سعيدا و(منشكحا) وكأن على رأسي ريشة أو طرطورا.

وما زلت أذكر منظر فتاة كانت تسير أمامي وهي في منتهى الأناقة والرشاقة والجمال، وهذا مما زاد من قناعتي بأن الحياة جديرة بأن يحياها الإنسان، طالما أنها ممتلئة بمثل هذه النماذج الرائعة. وفجأة سقطت من الفتاة لفافة من الورق دون أن تفطن لها، فالتقطتها من الأرض وسارعت الخطى وناديتها وقدمتها لها بكل شفافية وذوق (وشهامة عربية) معروفة، وأخذتها مني بكل انزعاج، بل إنها نتشتها من يدي وهي تتلفظ بألفاظ بذيئة، والواقع أنني اندهشت وانزعجت، وقبل أن أفيق من ردة فعلي، وإذا برجل طويل عريض يشبه المصارعين يتجه نحوي ويحتك بي مهددا ومتوعدا ويتهمني بمعاكسة صديقته والتحرش بها، فلجمتني المفاجأة، وإذا برجل آخر يأتي ويتدخل بيننا ويمسك بي ويحول بيني وبينه، كل هذا الذي جرى لم يستمر غير بضع دقائق، ثم ابتعدنا عن بعضنا بعضا، ووضع الرجل المصارع يده الغليظة حول الخصر الناحل للفتاة بعد أن طبع قبلة ثقيلة على خدها الأسيل ومضيا في حال سبيلهما، فيما وقفت أنا متعجبا مما حصل.

تنكد يومي وزالت بهجتي ورحت أجرجر قدميّ نحو أقرب مقهى وجذبت أقرب كرسي ورزعت حالي عليه محاولا التقاط أنفاسي، وطلبت قهوة وساندوتش ولو أنني كنت من المدخنين لشربت (بكت) كاملا من السجائر من شدة غيظي.

مكثت ما يقارب من نصف الساعة، وبعد أن هدأت طلبت الحساب وأتى به الغرسون، وضربت على جيبي لأخرج المحفظة، وإذا المحفظة قد طارت، وعرفت ساعتها أنني (اتنشلت)، حاولت أن أشرح وأفهم الغرسون وضعي وأعده أنني سوف أذهب وآتي له بالحساب، غير أنه رفض أن أتحرك من مكاني متهما إياي أنني نصاب وأفاق، خلعت ساعتي من معصمي وطلبت منه أن يحتفظ بها (كأمانة) إلى أن آتي له بثمن ما طلبت، غير أنه مط شفتيه وهو يقلب الساعة بين يديه، ثم رماها في حضني علامة أن ساعتي (كحيانة).

وهداني تفكيري المتأخر أو (المتخلف) أن أخرج تليفوني المحمول من جيبي الآخر - والحمد لله أن ذلك اللص لم يهتد له -، واتصلت بصديق أطلب منه وأرجوه أن يحضر حالا لأنني في مأزق.

وفعلا حضر وحاسب عني، وعندما حكيت له ما حصل، أخذ يضحك وهو يقول لي: (تعيش وتاكل غيرها)، ألا تعلم يا غبي عن وسائل النشالين؟!، ثم مالك أنت وما للفتاة حتى تتابعها بنظراتك؟!، قلت له: كيف لا أرد الأمانات إلى أهلها؟!، قال: دع الأمانات في مكانها يا أهبل وانفذ بجلدك، فأنت لست في بلدك، وأنصحك لا تدخل قط في مكان مزدحم، (وابعد عن الشر وغني له)، ولا تمد يد المساعدة لأحد، فالبعض يتظاهر أنه عاجز أو مخمور.

أخذ يقرّعني طول الطريق ويمطرني بنصائحه، وكأنني ما زلت طفلا لم أتعد مرحلة الروضة.

وذهبت وألغيت كرتي الائتماني، وقلت: على الله العوض بدراهمي، واعتبرتها في حكم الصدقة، وأكثر ما أزعجني هو فقداني لمفكرة تليفوناتي، حيث إنني مسجل عليها أرقاما لا أستطيع الاستغناء عنها.

ومن ذلك اليوم قررت أن ألغي (الشهامة) من قاموسي نهائيا، ولا انظر لأي فتاة حتى لو كانت (مارلين مونرو) زمانها.

[email protected]