حرية الكلمة

TT

العربي العائد من مدينة لندن حتى عهد قريب، كان غالباً ما يحمل ضمن حكاياته شيئاً عن ركن «الهايد بارك»، ذلك الركن الذي اعتاد الخطباء السياسيون أن يجدوا فيه ملاذهم أيام الآحاد ليطرحوا منظومة أفكارهم وتوجهاتهم بحرية على مسامع جمهورهم الصغير، وكانت جرعة الحرية التي يسمعها العربي الزائر لذلك المكان كبيرة، مقارنة بما اعتاد، أو عُوِّد عليه، فيغدو ذلك المشهد جزءًا من حكاياته بعد العودة إلى وطنه. اليوم لم يعد لذلك الركن أية أهمية تذكر بعد أن تحول الإنترنت إلى «هايد بارك» كبير يتيح فرص مخاطبة الكثيرين حول العالم دونما حاجة إلى التقيد بمكان محدد، وجمهور معين.

والكتابة في المنتديات العربية تغلب عليها الأسماء المستعارة في ما يشبه الحفلات التنكرية، التي لا يعرف فيها أحد أحداً، وهذه الكتابة المبرقعة قد لا تجعل البعض يستشعر مسؤوليته القانونية والأخلاقية والاجتماعية تجاه ما يكتب، عكس الحال في الصحافة الورقية المحكومة بالعلنية، وبالقوانين، والأعراف، وتقاليد المهنة.

والحرية غير المنضبطة في بعض المنتديات قد تكون مؤلمة، وخادشة، ومزعجة، ولكنها طبيعية إذا ما قيست بعمر الإنترنت في مجتمعاتنا العربية، فحريات التعبير من سماتها أن تكون عاصفة، حادة، متطرفة في بداياتها قبل أن تهدأ، وتنضج، وتتحول إلى حرية مسؤولة، وفي ظل هذه الحقيقة النفسية يمكن أن يتفهم المرء حالة الانفلات التي تعيشها بعض المنتديات العربية، ونزعات الدون كيشوتية، التي تدفع الفرد إلى امتلاك عدة معرفات، ودزينة من الأسماء المستعارة يصول بها في المنتديات ويجول، حتى إن البعض يمتلك ستة أو سبعة أسماء في منتدى واحد، يكتب بالاسم الأول، ويتداخل مع نفسه بالاسم الثاني، ويحتج بالثالث، ويتوافق بالرابع، ويشيد بالخامس، إلى آخر الأسماء التي يمتلكها.

بالأمس كان الرقيب أو «المكتوبجي»، الذي يراقب المطبوعات الورقية يمكن أن يلعب دور حارس المرمى، الذي يصد، ويرد، ويضبط عيارات السطور وفقاً لمزاجنا السائد، وبموت هذا الرقيب في عصر الإنترنت غدا العيش في هذا العالم المفتوح يتطلب قدراً من التفهم لطبيعة المتغيرات، وسيكولوجية المرحلة، كما يتطلب يقينية الإدراك بأن الحرية المتصلة بالكلمة عادة ما تصحح مسارها، وتعمق قيمها بالممارسة وصولا إلى مرحلة الرشد، والذين يمتلكون هذه اليقينية يمكنهم وحدهم النظر إلى الغد بشيء من الطمأنينة والتفاؤل.

[email protected]