لم أر أحدا!

TT

أول مرة رأيت إنجلترا كان سنة 1950. وكانت رحلتي الثانية إلى أوروبا. ولا أدعي أن الصور كانت واضحة في ذهني.. وإنما كانت تبدو لي وراء ضباب.. وكل ما في رأسي أسماء ساحرة: الشاعر العظيم شكسبير، والسياسي الكبير تشرشل، والكوميدي العبقري شابلن، وصانع التماثيل الأبدية هنري مور.. ثم المتحف البريطاني، والمكتبة العامة، وقصر الملكة، وتغيير الحرس، ومكتبة سميث، والإذاعة البريطانية.. انتهت كل معالم بريطانيا والإنجليز في رأسي..

ونزلت مطارا فى ذلك الوقت اسمه «بلاك بوش» أو «الأحراش السوداء» وقفت الطائرة - نزلنا. الناس عاديون. وجوههم حمراء جدا.. عيونهم زرقاء حمراء..

وانتقلت بنا السيارة إلى قلب مدينة لندن.. البيوت بأشكالها وألوانها قد رأيتها في الأفلام.. ولكن أين البيوت التي وصفها كاتبهم تشارلز ديكنز؟ وأين بيوت العفاريت التي أفزعنا بها كاتبهم كونان دويل؟ وفي المطاعم رأينا فتيات صغيرات جميلات يقلن بمناسبة ومن غير مناسبة: يا سيدي.. وأعجبني ذلك فرحت أطلب وأتردد في طلب أشياء لا ضرورة لها لكي أسمع كلمة: سيدي. شكرا واعتذارا وسؤالا - هذا هو الشيء الجديد الذي أحسست به في أول زياراتي لبريطانيا..

وسألت عن مكتبة سميث.. وهذا هو الاكتشاف العظيم الذي يساوي هذه الرحلة الشاقة في طائرة ذات محركين، كانت تعمل لحساب إحدى شركات الحبشة لنقل الحيوانات من الخرطوم الى أديس أبابا.. وفي مكتبة سميث وجدت نعيم الحياة.. وأحسست بإنسانيتي.. وأنني بين أهلي وأصدقائي وأعز الناس وأعظمهم وأبقاهم.. إنهم برودة الصيف ودفء الشتاء ورفاق الطريق ومصدر العذوبة والعذاب في دنياي.. وأسماء لم أكن أعرفها وعرفتها وامتدت يدي وقلبي إلى كتب جديدة.. ولما عدت إلى مصر وسألوني: ما الذي رأيت في بلاد الإنجليز؟ لم أجد ما أقوله فأنا لم أر أحدا. وإنما ذهبت وفي رأسي صفحات من ورق.. ووجدت كتبا من ورق.. ولذلك قررت أن أعود إلى بريطانيا مرة أخرى لأرى الناس.. فقد وجدتها خالية تماما.. وعدت إليها ثلاثين مرة. ومع الأسف لم أجد أحدا هناك في كل مرة - كلهم ورق!