الملك والسرداب (2)

TT

بعد أن كتبت المقال الأول عن سرداب الملك «سيتي الأول» بمقبرته بوادي الملوك، ذهبت إلى الأقصر وأنا في رأسي تدور أسئلة كثيرة حول هذا السرداب الغامض الذي لا يوجد له مثيل في أي مقبرة ملكية أخرى، ويعتبر من أحد ألغاز الحضارة المصرية القديمة التي لم تحل إلى وقتنا هذا.

وقد دخلت هذا السرداب ـ لأول مرة ـ في عام 2002 عندما توليت مسؤولية الآثار في مصر، وقررت في ذلك الوقت دخوله لاستكشاف أسراره ومعرفة وظيفته في مقبرة الملك. وكنت مستغرقاً في أفكاري وأنا في طريقي لدخول السرداب، وجال بخاطري لقائي مع الشيخ علي عبد الرسول، آخر عمالقة عائلة عبد الرسول الشهيرة في علم الآثار المصرية، الذين كشفوا عن خبيئة المومياوات الملكية عام 1875، وخرجت أسرارها إلى لعالم بعد زمن طويل من إخفاء السر بين أفراد العائلة، ليقوم أحمد باشا كمال ـ أول أثري مصري ـ بنقل مومياوات الخبيئة إلى القاهرة.. تذكرت كل هذا وأنا جالس في العربة التي أقلتني من مطار الأقصر إلى وادي الملوك، وذهبت في رحلة إلى الماضي البعيد، عندما قامت مصلحة الآثار بنقل مومياوات الفراعنة داخل توابيت مغلقة على متن السفينة البخارية التابعة لمصلحة الآثار في ذلك الوقت. وأثناء نقل التوابيت، كانت نساء قرية القرنة يلبسن الملابس السوداء وهن يبكين على فراق أجدادهن الذين عاشوا في هذا المكان آلاف السنين، وهن يشبهن تماماً منظر النائحات المصور على جدران مقبرة الوزير «راعموزا» بمقابر دراع أبو النجا بالأقصر، وذلك مع الفارق.. حيث كانت النساء في عهد الفراعنة يسرن وراء المتوفى وهن يرتدين الملابس البيضاء الزاهية، أما رجال قرية القرنة، فكانت التجاعيد تظهر على وجوههم، والدموع تملأ أعينهم، وكأنها جنازة حقيقية. لم يستطع أي إنسان أن يعبر عن هذا المشهد الإنساني غير العبقري شادي عبد السلام، ليعبر عن هذا المنظر من خلال فيلم «المومياء» الذي حصد العديد من الجوائز العالمية، وصار علامة في تاريخ السينما المصرية، ومن أفضل مائة فيلم عالمي، وقد نلت شرف التعليق على هذا الفيلم أثناء دراستي للدكتوراه بجامعة بنسلفانيا.

أما الحدث الثاني الذي جال بخاطري وأنا في طريقي إلى وادي الملوك، فهو لحظة وصول مومياوات الفراعنة إلى القاهرة، وتوقفها عند نقطة الجمارك التي كانت موجودة ـ في ذلك الوقت ـ أمام كوبري بولاق لتحصيل الرسوم على المنتجات الواردة من الصعيد. ودخل مفتش الجمارك لإثبات حمولة المركب، ووجد المومياوات داخل التوابيت المنقوشة بكتابات غريبة لم يراها في حياته من قبل، وبدأ يبحث داخل الملفات عن تصنيف لهذه المومياوات لكي يثبتها في دفتره، ولم يجد اسم مومياء ضمن الأسماء المقيدة لديه؛ ولم يستطع تقدير قيمة الجمارك على كل هذه المومياوات لتدخل القاهرة. وأخيراً، تفتَّق ذهنه عن حل لهذه المعضلة، حيث قيد المومياوات تحت اسم (سمك مملح)، وذلك بعد شرح ممن كانوا يصحبون المومياوات لطبيعتها، وكتبت الصحف يومها عن هذا الحادث الطريف.. وقبل أن أفتح عينيّ، تذكرت رواية الشيخ علي لي وأنا في سن العشرين عن سر هذا السرداب، وعن سر الملك «سيتي الأول»، الذي يعتبر واحداً من أعظم ملوك مصر الفرعونية.

www.zahihawass.com