اجتماع «أبوظبي» خطوة نحو مرجعية عربية فاعلة وفعلية

TT

كان أكثر من ضروري أن ينعقد اجتماع أبوظبي الأخير الذي حضره وزراء خارجية ثماني دول عربية كلها رئيسية وأساسية، بالإضافة إلى ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان أكثر من ضروري أن يتبلور خلال هذا الاجتماع الاتجاه الذي تبلور والذي اتفق على أن تكون مهمته حماية التضامن العربي الذي غدا مستهدفا، والذي واجه في الشهور الأخيرة امتحانات صعبة وقاسية، كادت تؤدي إلى شرذمة غير مسبوقة لولا سلسلة المبادرات الشجاعة التي أقدم عليها الملك عبد الله بن عبد العزيز في اللحظة المناسبة.

لقد اتضح، بينما مأساة غزة في ذروتها، أن هناك إصرارا تقوده إيران وتشارك فيه وللأسف دولتان عربيتان، هما سوريا وقطر، وبعض الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، التي تم «اختراعها» لهذه الغاية ولهذا الهدف لتحويل التمحورات التي بدأت بـ«فسطاط» الممانعة إلى انقسام عربي «شاقولي» وإلى معسكرين متباعدين، اعتبر أصحاب هذا «الفسطاط»، الذي غير معروف ما الذي يمانعه وما الذي يقاومه، أن المعسكر الآخر هو معسكر التفريط والتبعية للولايات المتحدة الأميركية.

وحقيقة أن هذا الاستقطاب قبل الإصرار على عقد قمة الدوحة بدون نصاب وبمن حضر كان من طرف واحد، فالذي أعلن إنشاء معسكر «الممانعة» هو إيران وقد تولى السيد خالد مشعل، طفل الولي الفقيه المدلل، التطبيل والتزمير لهذا المعسكر والذي تقصد تعميق الانقسام العربي المفتعل افتعالا في أسوأ منعطف وأخطر مرحلة هو الذي وصف القادة العرب مأخوذا بنشوة انتصار حسن نصر الله وحزبه الإلهي بأنهم أشباه رجال.

«إنه» كان من المفترض أن يتجنب العدوان على غزة ما قبله وأن يتناسى العرب «تناقضاتهم» و«معارضاتهم» الكثيرة وأن يوحدوا موقفهم وأن يخرج أصحاب «فسطاط» الممانعة ويقبلوا بالالتقاء مع الذين يختلفون معهم من الأشقاء في المنتصف، لكن هذا لم يحصل بل لقد ثبت بالأدلة القاطعة أن هذه المأساة المخزية قد تم استدراجها استدراجا لتنصيب خالد مشعل وحركته «حماس» وديكوره الفصائلي الدمشقي بديلا لمنظمة التحرير وللحالة الفلسطينية التاريخية، ولقد ثبت أيضا أن أحد أهداف هذه المأساة التي حلت بهذا الجزء من الشعب الفلسطيني هو إغراق المنطقة في الفوضى وضرب الحلقة المصرية على اعتبار أنها هي أهم الحلقات في السلسلة العربية.

لقد كان هذا معروفا وواضحا، لكن الأكثر حرصا على ألا يتشظى الوضع العربي في هذه المرحلة الخطيرة، حيث هناك إصرار إيراني على شطب الرقم العربي من المعادلة المستقبلية لهذه المنطقة، وحيث هناك إصرار إيراني يدعمه نزلاء «فسطاط الممانعة» على أن اللاعبين فوق مسرح الشرق الأوسط يجب أن يكونوا الإيرانيين والإسرائيليين والأميركيين، بذلوا جهودا جبارة لتجيير الوضع وتوحيد الموقف ووضع فرقة لا يستفيد منها إلا أصحاب هذا المخطط الشيطاني الذي لا يزال مستمرا ومتواصلا بدأب وإصرار أكثر مما كان عليه الوضع في السابق.

أولا: دعا الملك عبد الله بن عبد العزيز، لقطع الطريق على قمة الدوحة التي كانت طارئة ومستغربة بالفعل، إلى قمة خليجية عاجلة تم الاتفاق والتفاهم خلالها على عدد من المواقف الملزمة، لكن للأسف فإن الذين كانوا ولازالوا يتصرفون على أنهم النظم الشاردة قد بادروا الى لحس التزامهم قبل أن يجف الحبر الذي كتب به وذهبوا بعيدا في تحدي أشقائهم الأقربين والأبعدين وعقدوا قمة «بمن حضر» بحضور إشارة النصر التي رفعها محمود أحمدي نجاد فوق رؤوس العرب الذين قبلوا بحضور هذه القمة.

ثانيا: وللمزيد من بذل الجهود الجبارة لتدارك الوضع ولإنجاح قمة الكويت، التي حولها الطيبون وأصحاب النوايا الحسنة إلى قمة سياسية أيضا عنوانها غزة، فقد بادر خادم الحرمين الشريفين الى اتخاذ ذلك الموقف القوي الذي اتخذه عندما رفع شعار عفا الله عما مضى ولا خلافات بعد اليوم، ولكن للأسف ما لبث الذين جاءتهم التعليمات النافذة من الولي الفقيه في طهران بعد ساعات فقط من الارتداد على الأجواء الأخوية التي كانت سادت افتتاح هذه القمة وزرعت الأمل في قلوب العرب كلهم، من المحيط الى الخليج، وأعادوا كل شيء إلى المربع الأول ونقطة الصفر.

وهكذا فقد اتضح أن أصحاب «فسطاط الممانعة» ماضون في المخطط الإيراني حتى النهاية وأنهم مصرون على استخدام مأساة غزة وما حل بالشعب الفلسطيني في غزة لتنفيذ هذا المخطط الذي يستهدف منظمة التحرير ويستهدف مصر ويستهدف أيضا التضامن العربي والاستقرار في المنطقة العربية كلها، واتضح أيضا أنه لا بد من التحرك بسرعة لإيجاد رافعة لوضع العرب، الذي دخل نفقا مظلما وعاد لا يسر البال والذي لا بد له من مرجعية عنوانها التضامن والوحدة.

هناك يكون الوضع الفلسطيني الذي بات يقف على منعطف خطير والمهدد في ضوء ما عاد به خالد مشعل من عند الولي الفقيه من إصرار على إنشاء منظمة بديلة لمنظمة التحرير بالمزيد من التشرذم والتشظي وذهاب الريح، وهناك أوضاع العراق التي لم تستقر بعد والتي لا تزال مفتوحة على شتى الاحتمالات وأسوأها، وهناك التحرك السريع الذي بدأته الإدارة الأميركية الجديدة تجاه هذه المنطقة.. وهناك أيضا ويبدو أن هذا هو الأهم والأخطر، التدخل الايراني المتصاعد في الشؤون الداخلية لمعظم الدول العربية.

ثم وهناك قمة من المفترض أن تنعقد في نهاية مارس (آذار) المقبل في الدوحة، يجب أن تكون قمة عربية بالفعل ولا يحضرها محمود أحمدي نجاد، لا بإشارة النصر ولا بإشارة الهزيمة، ويجب أن يقتصر حضورها فلسطينيا على منظمة التحرير وعلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ومن سيختاره لعضوية وفده، ويجب أن تكون أيضا قمة واقع وليس مزايدات واعتبار أن عملية السلام باتت بحكم الميتة، وأنه لابد من سحب المبادرة السلمية التي أقرتها قمة بيروت في عام 2000، وجددت التأكيد عليها كل القمم اللاحقة.

ولهذا فإنه كان لابد من انعقاد اجتماع أبوظبي الأخير، ولابد من هذا الاجتماع لمرجعية عربية فاعلة ومقتدرة وحقيقية تحفظ للوضع العربي تماسكه وتوازنه وتحميه من التدخلات الخارجية وتصون تضامن العرب وتحافظ على وحدة موقفهم وتتصدى لكل مخططات وكل محاولات شطبهم من معادلة الشرق الأوسط المستقبلية.

ما كان من الممكن أن يبقى العرب، الذين يحرصون على التضامن العربي وعلى القضايا العربية التي تهم العرب كلهم، حرص الإنسان على بؤبؤ عينه، يتفرجون على كل هذه التدخلات الإيرانية وغير الإيرانية في شؤونهم الداخلية، ولذلك جاء اجتماع أبوظبي في وقته، وجاء استقطاب الموقف التركي بجهود الملك عبد الله بن عبد العزيز ليكون عمق الأمة العربية عمقا إسلاميا داعما ومساندا، وليس عمقا كالعمق الإيراني المستند إلى أطماع قديمة وتطلعات توسعية باتت تستند إلى رؤوس جسور نفوذ عسكرية ومذهبية على غرار ما هو عليه الوضع في العراق.. وفي سوريا أيضا ثم في لبنان وغزة.