وفاة «رجل عقلاني»

TT

ما الذي جعل بعض الأشخاص يرون الأزمة المالية وهي تلوح في الأفق، بينما لم يلاحظها الكثيرون وهي تستجمع قواها؟ طرحت هذا السؤال أخيرا على نوريل روبيني، الذي يعرف باسم «دكتور القدر المشئوم»، بسب تحذيراته الكثيرة منذ عام 2006 من أننا نتجه نحو عاصفة عالمية قوية.

وأعطاني روبيني نوعين من الإجابات. يتضمن النوع الأول عمليات حسابية معيارية من النوع الذي يقدمه الاقتصاديون عادة، وقد فعل روبيني هذا على نحو أفضل وأسرع. وكانت إجابته الثانية أكثر إمتاعا، لأنها تصب في قلب ما يجب أن نتعلمه عن هذه الأزمة. وقد قرر روبيني التخلي عن افتراض عقلانية السوق الذي يشكل الأساس لمعظم الأنظمة الاقتصادية، واعتناق أفكار نفسية لما يعرف بـ«علم الاقتصاد السلوكي».

أولا، في شرح تحليلي، قال روبيني إنه اطلع على جدول في كتاب الاقتصادي روبرت شيلر «الوفرة اللامعقولة». وكان يظهر أن أسعار العقارات في الولايات المتحدة، المعدلة حسب معدلات التضخم، ظلت ثابتة طوال قرن، حتى منتصف التسعينات، عندما بدأت في الارتفاع. وماذا أيضا؟ رأى روبيني أن أحدث عملية تصحيح في قطاع العقارات خلال أواخر الثمانينات كان لها أثر حاد على النظام المالي، حيث أدى في النهاية إلى انهيار قطاع المدخرات والقروض.

وهكذا عرف روبيني أمرين: أولا أن أسعار العقارات لن تظل في ارتفاع إلى الأبد، وأنها عندما تنخفض، ستأخذ معها جزءا كبيرا من النظام المالي. ومنذ ذلك الحين، أصبح الأمر يتوقف على مشاهدة البيانات.

ولكن كان الجميع يملك هذه الأرقام. فلماذا تحرك روبيني؟ الإجابة هي أنه قرر أن يصدق حدسه، الذي أخبره بأن هناك أزمة تلوح في الأفق، بدلا من «حكمة العامة» التي تتبعها وول ستريت والتي كانت تقول، كما عكست أسعار الأسهم، إن كل شيء وردي. وتوصل إلى أن الأسواق لا تحدد الأسعار في درجة الخطر الذي كان قائما بالفعل في مجال العقارات.

وقال روبيني الشهر الماضي في محاضرة في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس: «لم تفلح نظرية الرجل العقلاني لعلم الاقتصاد». ولهذا السبب يعطي هو واقتصاديون بارزون آخرون المزيد من الاهتمام بعلم الاقتصاد السلوكي، الذي يبدأ من الافتراض بأن القرارات الاقتصادية، مثل جميع جوانب السلوك الإنساني الأخرى، تتأثر بعوامل نفسية لا عقلانية.

ومن التناقض، أن أقوى رد على النموذج العقلاني جاء على لسان مؤيد تام لنظرية العقلانية، وهو آلان غرينسبان. قال رئيس مجلس المصرف الاحتياطي الفيدرالي السابق أمام الكونغرس في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «لقد أخطأت بافتراض أن المصالح الخاصة للمؤسسات، وتحديدا البنوك وغيرها، تجعلها أفضل ما تكون في القدرة على حماية حاملي أسهمها». ويقول دانيال كاهنمان، أستاذ جامعة برنستاون الذي غالبا ما يوصف بأب علم الاقتصاد السلوكي، إنه لذلك السبب لم ير غرينسبان الأزمة قادمة، حيث لم يسمح النموذج العقلاني له بذلك.

ودعوني أتحدث هنا عن جون ماينار كينز، الأب الروحي للاقتصاد السلوكي. وأحيانا ما يفسر كتابه «النظرية العامة» الذي صدر عام 1936 ببساطة على أنه دعوة لإصلاح الركود بتعزيز الطلب باستخدام الإنفاق الحكومي. ولكن في دراسة أعمق، نجد أن كينز كان يحلل دور العناصر النفسية، مثل الجشع والخوف، في القرارات الاقتصادية. وقد فهم أن الأسواق تصاب بالشلل عندما يصاب الناس بالذعر ويبدأون في ادخار الأموال السائلة. (وسماه: «خيار السيولة المفرط») وعلى النقيض، بدأت الأنظمة الاقتصادية في إحداث صخب عندما شعر المستثمرين بدفعة مما أسماه كينز «نزعة حيوانية».

ومن بين أقوى الأفكار التي سمعتها في دافوس، كانت فكرة تحليل «ما قبل الوفاة»، والتي كان أول من اقترحها هو عالم النفس غاري كلين ودعا إليها بعد ذلك كاهنمان.

ويمكن أن يقدم تحليل ما قبل الوفاة «اختبار ضغط» حقيقيا لأسلوب التفكير التقليدي. ودعونا نقول مثلا إن هناك شركة أو هيئة حكومية قررت خطة عمل ما. ولكن قبل تنفيذها، يطلب الرئيس من العاملين أن يفترضوا أنه بعد خمسة أعوام من الآن تفشل الخطة، ثم يكتبون شرح ملخص لسبب فشلها. ويقدم هذا المنهج فرصة لإظهار المشاكل التي غفل عنها صناع القرار، أو نظرية «البجعة السوداء» كما استخدمها الخبير المالي سابقا نسيم نقولا طالب، والتي افترض الناس أنها لن تقع في المستقبل القريب لأنها لم تقع في الماضي القريب.

وكان الدرس الآخر المستفاد من منتدى دافوس الذي عقد العام الحالي هو المثل الياباني الذي ذكره أحد المتحدثين: «بعد خطوة واحدة إلى الأمام يوجد الظلام». يمكن أن يجعلنا عدم القدرة على توقع الأشياء في الحياة الاقتصادية نشعر بالقلق. ولكن من الممكن أيضا أن يجعلنا ذلك أذكياء.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»