النموذج العراقي الجيد

TT

بدأ العراق الجديد في الظهور بعد خمسة أعوام من الغزو والاحتلال الأميركي. ومن المحزن أنه يبدو لأول وهلة مثل العراق القديم، فما زال شعبه محاطا بسياج من الأسلاك الشائكة والكراهية كما يحتفظ بتاريخه وهدفه المشترك.

ولكن من الواضح أن العراق الجديد أصبح أمة بالمعنى الذي لم يكن عليه العراق القديم، الذي طالما اعتبره الخبراء كيانا زائفا ينهار تحت وطأة الضغوط الخارجية. ولكن الأمة العراقية لم تنهر، بل مرت بتطورات إيجابية ومهمة نتيجة للوجود الأميركي الذي قريبا ما سيقل.

ولكن انتخابات المجالس المحلية التي أجريت الأسبوع الماضي كانت بعيدة عن الكمال، وما زالت العلاقات الشخصية بين الشيعة والسنة والأكراد في البلاد سيئة وقاتلة. وفي محافظة الأنبار، لم يطلب مشايخ السنة المستاءون إعادة فرز الأصوات، ولم يفصلوا مستشاريهم السياسيين. ولكنهم أطلقوا تهديدات بإطلاق موجة جديدة من العنف، إلا إذا أعلن على الفور أنهم فائزون. ولم تندثر العادات القديمة في العراق أيضا. ولكن بمقاييس الماضي، والحياة القاسية التي لا يزال العراقيون يعيشونها، تعد الانتخابات العامة التي أجريت مرتين في العراق في الأعوام الأربعة الماضية نموذجا مثاليا للتقدم والتأقلم الذي يجب أن يطمح آخرون في المنطقة إلى محاكاته. ويجب عدم تجاهل هذا التطور أو التقليل من شأنه، خاصة أن الولايات المتحدة وأوروبا تتصارعان مع مشاكل مشابهة تواجه أفغانستان. وربما يكون أكثر أهمية من نقل القوات من العراق إلى أفغانستان، هو نقل الدروس المستفادة من مكافحة المتمردين.

وتشير علامة أخرى إلى أن العراق اليوم أقرب إلى كونه مصدرا للاستقرار الإقليمي، مما كان عليه في فترة ما قبل الغزو الأميركي، عندما كرر صدام حسين تهديداته (وقد نفذها في بعض الأحيان) للقضاء على دول مجاورة للعراق من العرب والإيرانيين، بالإضافة إلى إسرائيل. تلك العلامة هي القبول المتزايد الذي تظهره الأنظمة العربية السنية في المنطقة للحكومة العراقية المركزية برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي أحرز ائتلاف دولة القانون الشيعي الذي يمثله أكبر الانتصارات في نتائج الانتخابات التي أعلنت يوم الخميس.

منذ عدة أعوام مضت، كان قادة الأردن يحذرون من أنهم لن يرضوا بأن يكون العراق جزءا من «الهلال الشيعي» المخرب. واليوم تتقدم عمان الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية جيدة وتعاون اقتصادي وروابط أمنية مع بغداد. ورفعت أبوظبي ودول أخرى في الخليج، بالإضافة إلى مصر، من درجة علاقاتها مع العراق، في الوقت الذي يبقي فيه المالكي ومساعدوه بعض المسافة بينه وبين كل من الولايات المتحدة وإيران. وقال لي أخيرا أحد المسؤولين العرب: «لقد ارتكب الرئيس بوش الكثير من الأخطاء باحتلال العراق. ولكنه أصاب بتعزيز القوات ومنح الحكومة العراقية وقتا لإظهار قدرتها على البقاء بذاتها. وقد أقنعت نتائج الأشهر الثمانية عشر الأخيرة الكثير منا بأن الحكومة المدنية العراقية موجودة من أجل البقاء، وقد حان الوقت للتعاون مع بغداد»، بدلا من الضغط من أجل إعادة السيادة على العراق إلى الأقلية من العرب السنة.

ومن أبرز الممتنعين عن هذه الخطوة، السعودية، ويرجع السبب في ذلك إلى حد ما على ما يبدو إلى العلاقات الشخصية الضعيفة بين المالكي والعائلة المالكة. ولكن لن يشعر السعوديون بالراحة في البقاء معزولين في هذه القضية أمام انتصارات المالكي في الانتخابية القوية التي تحققت الأسبوع الماضي على خصومه الأكثر تدينا في المحافظات العراقية الجنوبية.

وتفتقد النقاشات المستمرة حول ما إذا كان تعزيز القوات الأميركية قد نجح أم لا، إلى أهمية التغيرات التاريخية الكبيرة التي لا تزال تجد أثرا لها بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003. إن إضفاء صبغة داخلية على الصراع في العراق يجعل المنطقة أقل اشتعالا مما كانت عليه. ولم يعد الأكراد في البلاد يحيون تحت تهديد بالإبادة الجماعية من بغداد، ولم يعد على الشيعة أن يخضعوا للقتل الجماعي الذي تنظمه الدولة ضدهم بشكل روتيني. ويعد ذلك تقدما حقيقيا لهم وللإنسانية.

ولفترة طويلة، قاوم الرئيس بوش فكرة السماح للعراقيين بالمحاولة، مهما كانت فوضوية أو حتى قاسية، لحل خلافاتهم. ويجب أن يفكر الرئيس أوباما في هذا الأمر بينما يضع أسلوبا جديدا للتعامل مع الصراع في أفغانستان، وهي الدولة الأخرى «الجديدة» التي تبدو مألوفة تماما، حيث يزداد الفساد والاتجار في المخدرات وسيطرة طالبان.

فلتفكر في هذا النموذج العراقي أيضا، سيدي الرئيس: استطاعت القوة الأميركية أن تصدم العراقيين. ولكنها لم تروعهم. فهاهم يعودون مجددا إلى عاداتهم القديمة، إلى أخلاقهم الخاصة وحدودهم الاجتماعية. ولكنهم عادوا بالتغير الذي أحدثته فيهم التجربة، وكذلك الدول المجاورة لهم.

خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»