العلاقات التركية ـ السعودية: غل «ورد» في صحراء الجزيرة

TT

مسار العلاقات التركية ـ السعودية تعرض، أكثر من مرة، لعرقلة ومطبّات وصعود وهبوط على مدى سنوات طويلة. قد يكون شكل النظام وتركيبته وأسسه وخياراته المختلفة في البلدين هو سببها الرئيسي، لكن الدولتين نجحتا في تجاوز هذه العوائق بعدما اكتشفتا أن الجوانب والقواسم المشتركة التي تجمعهما ـ تحديداً بعد عام 2002، موعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، شجع الدولتين على إطلاق المزيد من حملات وخطط الانفتاح والتعاون بأسلوب مميز، كانت أبرز نتاجه تجنيب منطقتنا الكثير من المصائب، والمساهمة في حل العديد من الخلافات والنزاعات المؤلمة. ورغم اختلاف البِنَى السياسية والتوجهات والتركيبات في كلا البلدين، ورغم ارتباطهما بأكثر من اتفاقية مع العالم الغربي، فإنهما تميَّزا بقدرتهما على طرح مواقف وسياسات منفصلة عن الغرب عندما تتضارب المصالح أو تتعارض مع تطلعات ورغبات الشعوب الإسلامية؛ وترجمة كل ذلك عمليا إلى مشاريع وبرامج التقاء وتعاون في أكثر من مكان.

تحت شعار «لم الشمل، ووقف النزيف، وإنهاء المآسي التي تعاني منها المنطقة»، فاجأ العاهل السعودي الأتراك بزيارتين متعاقبتين خلال السنوات الثلاث الماضية، في أول تحرك سعودي رفيع على هذا المستوى. وهي من النوادر التي تحدث في تاريخ العلاقات التركية ـ السعودية بعد مضي 40 عاما على آخر زيارة لملك سعودي إلى أنقرة. ولم يتأخر الرد التركي على بادرة مد اليد هذه. 20 عاما تمر، لم نر خلالها أي رئيس تركي يزور السعودية. يقلبها الأتراك رأساً على عقب هذه المرة، ويحولونها إلى 20 زيارة للعاصمة السعودية، يقوم بها كبار المسؤولين هناك خلال العامين المنصرمين فقط.

أنقرة والرياض التقتا خلال السنوات الأخيرة أمام العديد من طاولات الجهود التي تبذل من أجل قطع الطريق على أكثر من محنة واقتتال وفتنة، لكن حجم المشاكل وخطورتها يوحي بأننا مازلنا في البداية.. فاقتراب أزماتنا وهمومنا من خط اللاعودة، وربما رفْضنا أنْ نتحمل المزيد ـ وبالمجان ـ لصالح مشاريع واستراتيجيات تفرض علينا، ولا مصلحة لنا فيها، قد يكون ذلك وراء هذا السباق على تحطيم الأرقام القياسية في تعاونٍ شجَّع القيادتين التركية والسعودية على فتح الأبواب والقلوب على وسعها؛ تصدياً للمخاطر المحدقة، وإحياءً لتعاون إقليمي شمولي، كان لا بد منه.

استقبال العاهل السعودي، محاطا بكبار أعوانه شخصيا، للرئيس التركي في مطار الرياض قد يكون خير ترجمة لحجم التقدير الذي توليه القيادة السعودية للمسؤولين الأتراك ومواقفهم الإسلامية والإقليمية، إلا أن ما يستوقفنا أمام هذه البادرة، هو أنها أفشلت كل حسابات المعارضة السياسية التركية والواقفين في وجه التقارب والانفتاح التركي على العالمين العربي والإسلامي، الذين ينتقدون ويهاجمون بقسوة حملات تجديد وترميم تركيا لعلاقاتها ـ شبه المقطوعة ـ مع محيطها هذا.

غل الذي طالب في كلمته أمام مجلس الشورى السعودي الفصل بين الإرهاب والدين، قال «إن الإسلام بريء من الأعمال الوحشية التي تُرتكب باسمه»، وكرَّر رفضه لسياسات تقود إلى دولتين فلسطينيتين على الأرض العربية المحتلة. وهو لم يتردد في الإعلان عن أن أنقرة تدعم ـ وبالكامل ـ المبادرة السعودية الأخيرة من أجل حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، منتقدًا القيادات الفلسطينية التي لم تلتزم باتفاقية مكة. غل جدَّدَ مرة أخرى من أمام منصة الرئاسة التذكير بحجم التقارب وتطابق الرؤية في التعامل مع أكثر من ملف وقضية مشتركة تعني البلدين، يتقدمها محاربة التطرف والإرهاب، وحسم الأزمات الإقليمية المتفاعلة، وفي مقدمتها مسألة البرنامج النووي الإيراني، والوضع في الخليج، والموضوع العراقي، والقضية اللبنانية.

البعض راهن على أن الزيارة تهدف أولا إلى تحسين العلاقات الاقتصادية، ورفع حجم التبادل التجاري بين البلدين. قد يكون هذا من بين التطلعات أيضا، لكن ردود القيادتين التركية والسعودية الحاسمة قطعت الطريق على أحلام المراهنين بإعطاء زيارة غل إلى المملكة طابع التعاون التجاري الاقتصادي، فالأولوية هي للصراحة والواقعية والعملية في التعامل مع أزمات المنطقة ومشاكلها. الرئيس التركي قال مثلا «إن إيران هي دولة جارة وصديقة، ومهمة بالنسبة لنا»، لكن غل قال أيضا «إن السلم الإقليمي هو مركز الثقل في تحركاتنا واتصالاتنا وجهودنا التي نبذلها، وعلى البعض أن يكون واضحا معنا عند ترتيبه لأولوياته وحساباته». أسلوب سياسة النفس الطويل الذي اختارته أنقرة والرياض في التعامل مع الكثير من المسائل الحساسة المقلقة المحيطة بنا لن يستمر على هذا النحو، ولن يطول إلى ما لا نهاية طبعا، والملفات لن تظل مفتوحة تنتظر أمامنا على الطاولة، فتوحيد الجهود مهمة تقع على عاتقنا جميعا، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يراهن على جني الأرباح في موسم تضميد الجراح وطمأنة القلوب.

لا أدري لماذا برز أمامي فجأة موضوع حملات التهديدات الإسرائيلية لأنقرة سياسيا وإعلاميا بسبب موقفها من الحرب على غزة «الطائرات الإسرائيلية ستصل بعد الآن فارغة إلى المدن السياحية التركية»، بينما نحن في أنقرة والرياض نتحدث عن سبل تجنيب المنطقة المزيد من الكوارث والويلات والمصائب التي تتحمل إسرائيل وسياستها فيها الدور الأكبر. هم يسعون ـ ربما من خلال تهديداتهم ـ إلى حرماننا من قدوم آلاف السياح وما سيتركونه من فتات بانتزاع موقف تركي متراجع متعاون متجاهل لأفعالهم، بينما نحن نتحدث عن حماية الهوية والانتماء والمصير.

* كاتب تركي