عندما يتكاثر «القادة» وتتلاشى «المرجعية».. فلسطينياً!

TT

لدى الشعب الفلسطيني فيض من الزعماء والقادة ومِمَّن يمتهنون القيادة؛ ولكن يكفي أن يفتقر، وأن يفتقروا معه، إلى «المرجعية» حتى يفتقر، ويشتد افتقار، الزعماء والقادة، الكُثْر المتكاثرون، إلى «صفة القيادة»، فلا «قيادة» بلا «مرجعية»، أي بلا هيئة واسعة (أو أوسع) منتخَبة، يرجع إليها القادة والقيادة في استمرار، بصفة كونها «الممثِّل المباشِر» للشعب.

إنَّها «السلسلة» التي ينبغي لحلقاتها جميعاً أن تتَّحِد وتتماسك حتى لا تشبه في بعضٍ من معانيها «سلسلة تشرشل» الكامنة في قوله «بريطانيا تَحْكُم العالم؛ وأنا أحْكُم بريطانيا؛ وزوجتي تحكمني؛ والفأر يخيف زوجتي».

«القيادة» لا بدَّ لها من أن تكون، في صفتي «التمثيل» و«الشرعية»، على هيئة «هرم»؛ ولكن «هرم القيادة» لدى الفلسطينيين هو الآن بلا قاعدة، فظَهَر وتأكَّد أنَّ «أزمة القيادة»، فلسطينياً، تكمن في واقعة أنَّ «مانح الشرعية (القيادية) لغيره يفتقر هو ذاته إلى الشرعية»، التي ينبغي لنا أن نفهمها (أي الشرعية) على أنَّها «صلاحية» يمكن ويجب أن يُسْتَنْفَد زمنها، فالشرعية التي لا عُمْر لها ليست بشرعية في العالم الواقعي للسياسة.

«الحق» لا يقوى، ولا ينتصر، إذا لم يتسلَّح دائماً بـ «الحقيقة»، التي لو سعينا في الوصول إليها في عالم نزاع وصراع الآراء ووجهات النظر لتبيَّن لنا، وتأكَّد، أنَّها ليست سوى «الرأي الثالث»، أو «وجهة النظر الثالثة».

الفلسطينيون الآن في نزاع جديد، فسؤال «هل أنتَ مع منظمة التحرير الفلسطينية بصفة كونها الممثِّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني أم مع البديل الذي تحدَّث عنه مشعل ودعا إلى بنائه؟» دفعهم إلى أجوبة أشعلت فتيل نزاع جديد؛ ولكن من النوع ذاته، أي من نوع النزاع الذي كلَّما تقادم استعصى حلاًّ.

إنَّهم جميعاً يتحدَّثون عن «المصالحة»، وشروطها ومستلزماتها ومقوِّماتها. كلُّهم متَّفقون على أهمية وضرورة «المصالحة»، وعلى اشتداد الحاجة إليها؛ ولكنَّهم ما إن يذهبوا إلى الحديث عن «الشروط»، و«المستلزمات»، و«المقوِّمات»، حتى يتضح، ويتأكَّد، أنَّهم غير متَّفقين حقَّاً إلاَّ على شيء آخر، هو أنَّ «مصالحهم الحقيقية» قد خلقت لهم مصلحة في منع «المصالحة الحقيقية» من أن تغدو «حقيقة واقعة».

وهم إنْ تحاوروا، توصُّلاً إلى «المصالحة»، على ما يزعمون، فإنَّ الهدف الكامن في تحاورهم هو أن يَسْتَجْمِع كلا الطرفين مزيداً من «الأدلَّة» على أنَّ قول الطرف الآخر بـ «المصالحة» ليس سوى «كلمة حقٍّ يراد بها باطل».

إذا فشل «حوارهم للمصالحة» تكرَّرت الدعوة إلى ما يشبه «عصا موسى»، أي إلى التعجيل في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، عملاً بمبدأ «العودة إلى الشعب»، أو «الاحتكام إليه عبر صندوق الاقتراع». حتى اتِّفاق المصالحة المُقْتَرح يجب أن يتضمَّن الاتِّفاق على التعجيل في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة.

سلباً، أقْتَرِح أن يضربوا صفحاً عن كل ما هم فيه مختلفون.. ومتَّفقون، فلا «المصالحة»، مع شروطها ومستلزماتها ومقوِّماتها، ولا التعجيل في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، هو الأمر الذي تكمن فيه «الأزمة» و«الحل».

أمَّا إيجاباً فأقْتَرِح أن يتَّفِقوا جميعاً على أمر واحد فحسب هو التأسيس، عبر الانتخاب، لـ «مؤتمر قومي للشعب الفلسطيني كله»؛ وليَكُن اسمه «المجلس الوطني الفلسطيني» حتى يظل ظاهراً وقوياً إجماع الفلسطينيين على أهمية وضرورة أن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية الممثِّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

أسِّسوا أوَّلاً هذا «المؤتمر» حتى لا يبقى الشعب الفلسطيني وقادته (فثمَّة قائد لكل ثلاثة فلسطينيين) بلا «مرجعية»، يُرْجَع إليها، ويُحْتَكم.

لِيُنْتَخب هذا «المؤتمر» انتخاباً حرَّاً ديمقراطياً سرِّياً نزيهاً حيث يمكن انتخابه؛ وليَتَّفِقوا على «طريقة سليمة» لاستكماله، فـ «الديمقراطية» إنْ غابت (لأسباب موضوعية) إجراءً، يجب ألاَّ تغيب محتوى ومضموناً.

من هنا، ومن هنا فحسب، يجب أن يبدأ كل شيء، فـ «المرجعية» التي لا ريب في تمثيلها، وفي صدق تمثيلها، للشعب الفلسطيني، هي التي يجب أن تقوم أوَّلاً، وأن تنهي بقيامها، وإلى الأبد، ما يشبه «البقرات المقدَّسة» من «الأوزان» و«النِسَب» و«الحصص»..

لقد ملَّ الشعب الفلسطيني من ظاهرة «الائتلاف الحزبي»، فواقعها لم يأتِ إلاَّ بما يؤكِّد أنَّ «الجبهة الواسعة حزبياً» هي ذاتها «الضيِّقة شعبياً»، وكأنَّ الغاية هي التأسيس لـ «ائتلاف» يتَّسِع للأحزاب، ويضيق بالشعب.

هذا «المؤتمر القومي» المُقْترَح، والذي فيه، وبه، تُبعث الحياة في منظمة التحرير الفلسطينية، ويعاد بناؤها بما يمكِّنها من أن تبتني لشعبها دولة مستقلة ذات سيادة، هو الذي سيأتي بـ «المفاوضين» و«المقاومين» معاً، ليريهم «الأحمر» و«الأخضر» و«الأصفر» في السياسة الفلسطينية، وفي بُعدَيْها الاستراتيجي والتكتيكي.

زمناً طويلاً، وطويلاً جداً، استغرقه المفاوِض الفلسطيني في مفاوضة إسرائيل؛ ولكن ألَمْ يَحِن له أن يأتي إلى «المرجعية الفلسطينية»، أي إلى «مؤتمر قومي» للشعب الفلسطيني، ليحيطه عِلْماً بما حَدَث على الأقل؟!

و«المقاوِم» ألَمْ يَحِن له أن يأتي هو أيضاً إلى هنا ليُسلِّح بندقيته بـ «السياسة» التي يقرِّها ممثلو الشعب؟!

كفاكم احتكاماً إلى هذا «الوسيط» أو ذاك؛ وكفاكم امتثالاً لنصائح ناصحين، بعضهم يُلْبس تعاونه مع إسرائيل ضدكم لبوس النصيحة؛ وكفاكم تَغَنٍّ بما تتمتَّع به قيادتكم من شرعية عربية أو دولية، فالشرعية المستمَدة من الشعب الذي تقودون هي الشرعية الأُم.

إنَّ الشعب ليس جمهوراً من المستمعين أو المشاهدين الكرام لبرامجكم الإذاعية والتلفزيونية، بل هو مَصْدَر الشرعية السياسية، والسلطات جميعاً؛ ويحق له أن يؤكِّد هذا المعنى السياسي لوجوده، عبر «ممثِّله المباشِر»، وهو «المؤتمر القومي».

وهذا «المؤتمر»، لجهة وجوده، ولجهة وجوب وضرورة وجوده، هو «الرأي الثالث»، أو «الجواب الثالث»، والذي فيه تكمن «الحقيقة»، التي ينبغي لـ «الحق القومي» الفلسطيني أن يتسلَّح بها، فَلِمَ لا يتَّفِق المختلفون على «جدول أعمال» من بند واحد فحسب، هو أن ينصرفوا جميعاً إلى التأسيس (الديمقراطي والانتخابي) لـ «المؤتمر القومي الفلسطيني»، مع الاحتفاظ، إذا ما أرادوا، بـ «المجلس الوطني الفلسطيني» تسميةً له، فإنَّها المأساة بعينها هذا الاجتماع بين تكاثر القادة والزعماء وتلاشي واضمحلال «المرجعية»؟!