رسالة فرنسا الإقليمية الجديدة

TT

هناك طريقتان لرؤية الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى العراق.

الأولى هي تجاهل الحدث برمته كنموذج آخر لنشاط ساركوزي الذي اشتهر به. فقد أصبح القائد الفرنسي يظهر في صورة الرجل الذي يريد أن يكون في كل مكان في كل وقت. لذا، لماذا لا يذهب إلى بغداد في هذا الوقت؟ ولكن هناك طريقة أخرى لرؤية هذه الزيارة. إذا أطلقنا على هذه الزيارة وصف أنها تاريخية، فإننا نضيف إليها ما يفوق المعنى التقليدي. فساركوزي أول رئيس فرنسي يزور العراق. وكانت أول مرة يستضيف فيها العراق زعيم فرنسي رفيع المستوى في عام 1976 عندما سافر جاك شيراك نائب الرئيس في ذلك الوقت إلى بغداد كضيف على صديقه القديم صدام حسين التكريتي. ولكن كان للزيارة على المستوى الرئاسي شأن آخر، حيث إنها ترمز إلى استعداد فرنسا إلى التعامل مع العراق كشريك مكافئ.

وفي إطار الحسابات السياسية السريعة، تشير الزيارة إلى التغير الكبير في السياسة التي كانت فرنسا تتبعها تجاه العراق منذ عام 2001، عندما طرحت قضية الإطاحة بصدام حسين لأول مرة على نحو جاد. وقد نشر شيراك، الذي كان رئيسا في ذلك الوقت، قواته الدبلوماسية من أجل تمديد فترة بقاء صدام في الحكم. وبعد ذلك أرسل وزير خارجيته، دومينيك دو فيلبان، الذي كان معجبا أيضا بصدام، في جولة تمر بعدد من الدول الأفريقية والآسيوية لحشد التأييد لصالح الطاغية العراقي.

في الوقت الذي حدث فيه كل ذلك، ابتعد ساركوزي، على الرغم من كونه عضوا في إدارة شيراك، عن سياسة فرنسا الموالية لصدام. وفي عام 2003، عندما استعدت قوات التحالف الأميركية لدخول العراق والإطاحة بصدام حسين، أوضح ساركوزي أنه لن يذرف الدموع على نهاية الطاغية.

وتحمل زيارة الأسبوع الحالي إلى العراق ثلاث رسائل مهمة.

أولا، أوضح ساركوزي أن فرنسا، بعيدا عن الندم على سقوط صدام حسين، ترحب بالفرص التي أتاحتها أمام إقامة عهد جديد في العراق. وبمعنى آخر، كان الدافع وراء سياسة شيراك الموالية لصدام هي اعتباراته الشخصية بدلا من أن يكون نابعا من رغبة لدى الشعب الفرنسي للمساعدة على تمديد فترة المعاناة التي يجدها العراقيون تحت حكم البعثيين.

الرسالة الثانية هي أن فرنسا ترغب وتقدر على أن تولي دورا كبيرا في إعادة إعمار العراق. ولا يتوقع أحد من فرنسا أن تستعيد سريعا مكانتها المتميزة التي كانت تتمتع بها لدى العراق عندما كانت ثاني أكبر مصدر للمعدات العسكرية. ولكن تتسع احتياجات العراق الجديد وتتنوع كثيرا لدرجة أنه يجب ألا تجد فرنسا صعوبة في المشاركة في الجهود التي تلبي هذه الاحتياجات.

ومن الناحية السياسية، ربما تكون رسالة ساركوزي أكثر أهمية، حيث يزور الزعيم الفرنسي بغداد ليعرض إقامة علاقات صداقة طويلة المدى في الوقت الذي تستعد فيه الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك حسين أوباما للانسحاب من العراق بأسرع ما يمكن.

ومن المبكر جدا بالطبع أن نعرف ما إذا كان أوباما ينوي فعلا أن يبدد الاستثمارات الهائلة التي أقامتها الولايات المتحدة في العراق، بالدماء والأموال، لمجرد أن يثبت أنه كان على حق في معارضته للإطاحة بصدام حسين كما فعل جاك شيراك.

ولكن قام ساركوزي بخطوته بما يتفق مع بديهية سياسته الخارجية التي تقضي بأن المرء يجب ألا ينتظر ويرى ما يفعله الأميركيون في جميع القضايا قبل أن يشكل سياسته الخاصة.

ويعتقد ساركوزي أن المرء يجب أن يضع في اعتباره حقيقة أن السياسة الخارجية الأميركية أحيانا ما تحددها الاعتبارات الحزبية الضيقة المتعلقة بالسياسة الداخلية. وما يبدو على أن التقلب الظاهري هو صفة طبيعية لنظام سياسي يجب أن يضع قائده دائما عينه على بيوريا.

لذلك، ربما يكون أوباما مستعدا لأن يلقي بالعراق إلى الكلاب إذا كان هذا يساعده على إعادة انتخابه مرة أخرى. ومن جانب آخر، ربما يتفوق على جورج دابليو بوش في التزامه بالنظام العراقي الجديد إذا بدأ العراق في أن يبدو نجاحا أميركيا إستراتيجيا.

وطوال زيارته القصيرة إلى بغداد، كان ساركوزي يتوق إلى الحديث باسم الاتحاد الأوروبي ككل. وكان المعنى الضمني هو أنه إذا قرر الأميركيون الانسحاب، لن يترك العراق أمام الخيار الوحيد بأن يصبح تحت حماية النظام الخميني في طهران. وسيكون الاتحاد الأوروبي، بدعم من تحالف قوي من العرب المعتدلين بالإضافة إلى تركيا، في مركز يقدم للعراق الجديد خيارا بديلا للدعم. ويعد ظهور العراق الجديد في حالة من السلام مع الدول المجاورة حدثا مهما في تاريخ المنطقة. فعلى مدار نحو نصف قرن، كان العراق يشكل تهديدا أيديولوجيا وعسكريا للدول المجاورة. وكان النظام البعثي في العراق مسؤولا عن صراع طويل منخفض الحدة مع نظرائه الأيديولوجيين في سورية. وقد أشعل نيران حربين مع إيران، الأولى بين عامي 1971 و1975 والثانية بين عامي 1980 و1988. واستخدم وسائل متعددة للتدخل في شؤون السياسة الداخلية الأردنية، وزود إرهابيين بالسلاح ووفر لهم الحماية للعمل ضد تركيا، وفي عام 1990 قام بغزو الكويت المجاورة. ويعد إنهاء هذا الفصل من التاريخ العراقي إنجازا لا يقدر بثمن، ويجب ألا يتم التخلي عنه بسبب اعتبارات سياسية قصيرة المدى.

ويظل العراق الجديد في عملية تطور، وليس في صورة منتج نهائي. وكما يقول هيغل، إن فعل «يصبح» عكس «يكون». ولكن، استيعاب ذلك والترحيب به ومساعدته على أن يقيم ذاته، يخدم مصالح الجميع، ما عدا بالطبع، هؤلاء الذين يستفيدون من الأزمات والصراعات.

وكان ساركوزى على حق في إشارته إلى أن مساعدة العراق الجديد يجب أن تكون هدفا إستراتيجيا للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط. وتجد الدول العربية المعتدلة التي زارها ساركوزي بعد زيارته التاريخية إلى بغداد مصلحة أكبر بكثير في مساعدة العراق الجديد على العودة إلى الاتجاه السائد في المنطقة.