الثورة في زمن الدولة

TT

العلاقات بين الدول لا تخضع للصَدَقات ولا للصداقات. ولذا ما استغرب الرئيس بوش الأب عام 1979 أن لا يعترض السوفيات (الروس) على إعادة توحيد ألمانيا، بل أن يعترض البريطانيون والفرنسيون! وصحيحٌ أنّ البريطانيين والفرنسيين قاتلوا ألمانيا في الحرب العالمية الثانية - وإلى جانبهم الولايات المتحدة -، لكنهم وطوال حوالي الخمسين عاماً كانوا حلفاء بعدها في الأطلسي، وفي السوق الأوروبية، وفي الحرب الباردة ضد حلف وارسو. وفي حين اكتفى الروس بعشرين مليار مارك ألماني للانسحاب من ألمانيا الشرقية عسكرياً وسياسياً؛ كان على الألمان والأميركان أن يهددوا بفرط السوق الأوروبية، واتخاذ خيارات استراتيجية أخرى؛ إن لم يسمح حلفاء الأمس والغد لألمانيا بأن تعود دولةً قوميةً للشعب الألماني من جديد!

وأذكر هذا كلَّه بمناسبة الذكرى الثلاثين للثورة في إيران، والتي تحتفل بها الجمهورية الإسلامية هذه الأيام، بسبب المرارة التي يُحسُّ بها العربُ تُجاه الجمهورية الإسلامية وسياساتها خلال السنوات الثماني الماضية. فقد عادت إيران، وبعد العام 2002 بالتحديد، لتلعب لُعْبة تصدير الثورة أو نشر النفوذ، في العالمين العربي والإسلامي. وهي خلال هذه العملية التي تعتبرها اختراقاً وانتصاراً أزعجت الأنظمة، وزادت من الحساسيات بين السنة والشيعة، ومن الانقسام العربي، وجعلت من إعادة توحيد الصفّ الفلسطيني أمراً بالغ الصعوبة. وتذهب إيران، أو يذهب الجهاز المتولّي للأمر خلال السنوات الخمس الماضية، إلى أنهم إنما يفعلون ذلك دعماً لقضية فلسطين، ومعارضةً لفكرة التسوية. وبغضّ النظر عن مسألة «حقّهم» في ذلك، أي على اختراق حدود الدول وسيادتها؛ فإنهم يعرفون أنّ طُرُقَهُمْ في مساعدة المقاومة تصلُ إلى عكس ما قصدوهُ (إن كانوا حقاً قد قَصَدوا ذلك!)؛ فإسرائيل تزداد قوةً، وتحاول استعادة أسنانها ومدّ عضلاتها من جديد بعد أن بدأت بالانكفاء. وهي تقول إنها إنما تفعلُ ذلك تحت وطأة التهديد الإسلامي الذي تدعمُهُ الجمهورية الإسلامية. والشارع العربي والإسلامي ينقسمُ تحت وطأة سؤالٍ في غير محلِّه الآن وهو: تحرير فلسطين أو عدم تحريرها! وعلى المستوى الدولي يتجدد الحديث عن الإرهاب الإسلامي؛ وهو هذه المرة ليس إرهاب «القاعدة» وحسْب؛ بل إرهاب الدولة أيضاً، للتصرفات التي صارت معروفةً في أنحاء شتّى من العالَم. والمجتمع الدولي يشتبك مع إيران منذ سنواتٍ بشأن النووي وبشأن العراق، والآن بشأن العلاقات الغامضة بـ«القاعدة»!

بيد أنّ ما يُزعجُ العرب بالخليج، أكثر ما يُزعجُهُم، سياسات الابتزاز التي خَبَروها أيام الشاه. فكل هذه التصرفات شرق الفرات وغربه، وفي مضيق هُرمُز والتي تَغَصُّ بالتهديد والاستخفاف، تخاطب الولايات المتحدة مباشرةً ولا تأْبهُ لما دون ذلك. وقد مرت على العرب الخليجيين وغيرهم خمس سنواتٍ (حتى العام 2006) كانت خلالها إيران لا تتناقضُ في الخطوط العامة مع الولايات المتحدة، التي كانت بدورها تحاصرُ سائر العرب، مرةً بحجة الانغمار في التطرف الإسلامي، ومرةً لأنها تُريدُ أن تنشر الديمقراطية في الأوساط العربية. وفي آخِر اجتماعٍ لدول جوار العراق بطهران، قال لهم متقي: إن أردتم أن ينسحب الأميركيون من العراق، فعليكم أن تعملوا على إيقاف العنف هناك. وهذا مع أنهم كانوا يعرفون أنّ «القاعدة» التي كانت تخرّب بالعراق، كانت تخرّب أيضاً بالسعودية. وهكذا فهناك موضوعاتٌ مشتركةٌ عديدةٌ بين العرب والجمهورية الإسلامية، يحتاج الأمر إلى التنسيق فيها. والإيرانيون مستعدون للتشاور مع كلّ أحدٍ باستثناء أهل المنطقة.

في الذكرى الثلاثين لقيام الثورة الإسلامية بإيران إذن؛ فإنّ إيران/ الدولة، تعودُ - ومن خلال الحرس الثوري - لاستخدام تكتيكات الثورة في سياستها الخارجية، تُجاه العرب بالذات. وكما سبق القول؛ فإنّ المعلّقين السياسيين الإيرانيين يعتبرون تلك السياسات الثورية اختراقاتٍ لصالح إيران وموقعها الاستراتيجي، ودورها المهمّ في منطقة الجوار العربي والإسلامي. وعندما وقعت أحداثُ غزّة الأخيرة، كُنّا نُحِسُّ بها قبل أُسبوعين من حصولها. فقد دعانا السيد نصر الله قبل إعلان حماس عن إنهاء التهدئة بأيامٍ - وما كنا نحسب الأيام الباقية للأسف - إلى التظاهُر من أجل غزة يوم الجمعة في 19/12. وفي يوم الخميس في 18/12 أعلن إسماعيل هنية عن إنهاء التهدئة، وبدأت حماس بإطلاق الصواريخ. وبعد الهجوم الإسرائيلي مباشرةً، والهجمات المحمومة على مصر، والغمز من قناة السعودية، بدأ القطريون والسوريون يدعون لقمةٍ من أجل غزة بالدوحة، والتي تزعّمها كما هو معروف الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وهكذا فقد كانت هناك تخطيطاتٌ لإيقاع ما وقع، تماماً كما حدث يوم 12 تموز (يوليو) عام 2006 مع حزب الله بلبنان. ولنفترض أنّ إيران الإسلامية مهتمةٌ بالفعل بالقدس وفلسطين، وتريد شنَّ هذا الهجوم أو ذاك بواسطة أنصارها للضرار بإسرائيل، وإزعاج الولايات المتحدة. أَفَما كان واجباً أو مُلائماً ما دام الحرصُ على الشعب الفلسطيني ومصالحه قد بلغ هذا الحدّ، الحديث مع السعودية، إن لم يكن مُراراً أو ممكناً الحديث مع مصر؟

وأمام هذه المواقف المستمرة منذ العام 2001، عام هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة، وبدء الحرب على الإرهاب، وبدء الحصار الأميركي والإسرائيلي على العرب والفلسطينيين؛ تختلف التقديرات في عِلَل ذلك وأسبابه. هناك من يعلّل ذلك بالصراع الإيراني مع الولايات المتحدة من أجل الشراكة بالمنطقة، ومن أجل السماح بالتحول إلى دولة نووية. وهناك من يُقَدِّرُ أنّ إيران تقصد إلى تحسين موقعها الاستراتيجي، والدخول إلى منطقة غرب الفرات/البحر المتوسط، وهي لا تخشى على هذا الطموح غير تركيا التي تجاورها وتشترك معها في الموقف من الملفّ الكردي. لكنْ أياً تكن الأسباب، وهل هي عقائدية أو قومية، استراتيجية أو تفاوُضية؛ فإنّ جانب العرب لم تجرِ مُراعاتُهُ فيها؛ وبخاصةٍ أنّ همسات السرّ والعَلَن، تعتبر ذلك انتصاراً لا أقلّ ولا أكثر. وقد كان هناك من قال إنّ هذا الاضطراب أو الفوضى البنّاءة (بحسب سياسات الرئيس بوش الابن)؛ يقتضينا أن نتحدث إلى إيران بشأن مراجعة سياساتها وتصرفاتها. ذلك أنّ نشْر الاضطراب، وإن بدا مفيداً اليوم، لن يكونَ مفيداً في الغد وبعده. وقلتُ إنّ هذه النصيحة المفترضة تُشْبهُ ما كنا نقوله للسوريين عندما كانوا يسيئون التصرف في «ممتلكاتهم» بلبنان. فقد دأَبْنا على القول إن ّهذه التصرفات ليست لصالح سورية، قبل أن تكونَ لغير صالح لبنان! وقد كان السوريون يسخرون منا ويقولون: نحن أَدرى بمصالحنا منكم!

ولذا فإنَّ الأجدى، وفي الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية، أن ننصرف إلى مُراجعة أمورنا ووجوه ضعْفنا، ومهاوي انقسامنا وتشرْذُمِنا. وهذا ما قام به الملك عبد الله بن عبد العزيز وعبَّر عنه في كلمته الشهيرة أمام مجلس الشورى السعودي، بشأن الصراع بين العقل والشيطان، والمصير إلى الإصغاء لصوت العقل حتى مع أولئك الذين هم منا، والذين ما أصغوا في السنوات الأخيرة لغير وسوسات الفتنة والاضطراب! وأولُ ما ينبغي أن يستقيم هو الملفُّ الفلسطيني/ الفلسطيني، والذي صار غاصاً بالثوار المحترفين، الذين بحثوا عن إيران وغيرها، كما بحثت عنهم. ففي العام 1999 كما أذكُر شكا أمامي أحد الحماسيين من أنّ الإيرانيين يُصْغون لتنظيم الجهاد الإسلامي، أكثر بكثيرٍ مما يُصْغون لحماس التي تمثّل جماهير الشعب الفلسطيني الإسلامية! والأمر الآخَر الذي ينبغي القيامُ به هو توحيد ُصفوف الخليجيين، وجمْع كلمتهم وهمِّهم وهمَّتهم مع المملكة العربية السعودية، لكي لا يؤتَى العربُ من جهة انقسامهم أو خوفهم من إيران. ولا بد أيضاً من الاهتمام بهموم النظام السوري، إذا أمكن معرفةُ همومه الفاقعة والغامضة في الوقتِ نفسِه!

وعندما تنتظم هذه الملفّاتُ الثلاثةُ، يمكن وقتَها أو بالتوازي معها خَوضُ نقاشٍ مع إيران بشأن العلاقات، وبشأن الشراكات الممكنة والأخرى غير الممكنة. فالنقاشاتُ لا تستقيم إلاّ عندما تكونُ الحوزةُ مَحْميّةً أو منيعة الأسوار. إذ عندها تصبح النقاشاتُ نقاشاتٍ بين الدُوَل، وهو خلافُ ما كان يحصُلُ في السنوات الماضية عندما كان الإيرانيون يجيبون على كلّ نداءٍ للحديث أو الصداقة بالقول إنهم يريدون تحرير فلسطين، ويريدون إخراج الولايات المتحدة من المشرق والخليج، ثم يدعوننا للسير بقيادتهم لتحقيق هذين الهدفين؛ في حين يتفاوضون هم مع الولايات المتحدة منفردين:

تعدو الذئابُ على مَنْ لا كِلابَ له

وتتّقى صَولةَ المسـتأسدِ الضاري