المشهد الإسرائيلي بعد الانتخابات الأخيرة

TT

لم تحمل نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية مفاجأة كبرى، على الرغم من التفوق المحدود الذي سجله حزب كديما على الليكود، في حين تأكد سيناريو صعود حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني المتطرف، وتراجع تشكيلات اليسار المتمحورة حول حزب العمل وميرتس.

عكست الخارطة الانتخابية المتولدة عن الاستحقاقات الأخيرة، اتجاهات ثلاثة بارزة في الحقل السياسي الإسرائيلي، نجملها في العناصر التالية:

أولا: الانهيار المتدرج لحزب العمل الذي انتقل إلى الموقع الرابع في المعادلة الداخلية الإسرائيلية، بحصوله ثلاثة عشر مقعدا برلمانيا، بعد أن كان في الماضي القوة الرئيسية التي أنشأت الدولة الصهيونية وحكمتها في أغلب مراحل تاريخها. ولا شك أن هذا الانهيار المريع يعبّر عن تحول جوهري في داخل المؤسسة الصهيونية ذاتها، من حيث مشروعها الإيديولوجي وخياراتها السياسية وعلاقتها بالجاليات واللوبيات اليهودية في الخارج.

فالعقيدة الصهيونية، كما هو معروف، أخذت منذ البداية شكل الخطاب القومي العلماني المتأثر بأطروحات اليسار الأوروبي، ودافعت عن مشروع الدولة اليهودية الديمقراطية القادرة على استيعاب الشعوب اليهودية المنحدرة من خلفيات عرقية وثقافية وطائفية شديدة التباين والاختلاف. ولهذا الغرض أنشأت المؤسسة الصهيونية هياكل إدماجية احتضنت مجتمع الهجرة الوافدة، من أبرزها الكيبوتزات الجماعية (المزارع العائلية) والنقابة العمالية والتنظيمات المسلحة، التي شكلت عمود الجيش «الدفاعي». وعلى الرغم أن هذه الهياكل لم تنجح في امتصاص التناقضات الداخلية، التي تنخر المجتمع الإسرائيلي (خصوصا بين اليهود الشرقيين السفارديم والغربيين الاشكيناز)، فإنها كانت بالفعل قاعدة بناءِ ما اعتُبر هوية وطنية مشتركة في مجتمع شديد التنوع والتناقض. من هذا المنظور أدّى حزب العمل دور الحاضن الإيديولوجي والإطار السياسي للمشروع الصهيوني، وبلور خطابا علمانيا تحديثيا مقبولا خارج إسرائيل، في ما وراء الميتولوجيا الدينية، التي يوظفها في استراتيجيته التعبوية، لاستقطاب المهاجرين اليهود (مقولة الوعد المقدس والحلف مع الرب).

ومن الجلي اليوم، أن حزب العمل لم يعد قادرا على أداء دور القاطرة السياسية والإيديولوجية للمشروع الصهيوني، بل تحول إلى تشكيلة حزبية صغيرة لها تأثيرها الفعلي دون شك، لكنها غير قادرة على تحديد الثوابت والخيارات الاستراتيجية للمجتمع الإسرائيلي.

ثانيا: حققت القوى اليمينية، بمختلف تلويناتها، اختراقا ملحوظا للحقل السياسي الإسرائيلي، مما تجسد في الحجم المتزايد للتشكيلات اليمينية الثلاثة: كديما والليكود و«إسرائيل بيتنا»، التي أصبحت تسيطر على سبعين مقعدا من مقاعد الكنيست. وإذا كانت الأحزاب الثلاثة تتباين من حيث الخلفية الإيديولوجية والمواقف السياسية، فإنها تتفق في الرؤية العميقة للمشروع القومي اليهودي بالدفاع عن فكرة «الدولة اليهودية المتجانسة»، مهما كان الموقف النهائي من إطار التسوية مع الفلسطينيين والعرب: قبول الكيان الفلسطيني المحدود السيادة (كديما)، أو الاكتفاء بالتوافقات المرحلية الجزئية (الليكود)، أو السماح بمعازل فلسطينية يهجر إليها المواطنون الإسرائيليون العرب.

ومن الواضح أن خطاب اليمين الإسرائيلي يستعيد المسحة العنصرية والأصولية التي كانت معهودة في بعض الاتجاهات الأرثذوكسية اليهودية والفاشية التي كانت معزولة داخل الخطاب الصهيوني (كتابات فلاديمير جابوتنسكي على الأخص)، قبل أن يتم اعتمادها من الليكود لدى تأسيسه عام 1973، ثم انتشارها في ما بعد على نطاق واسع في الشارع الإسرائيلي.

ثالثا: على الرغم من الرأي السائد بأن الصراع الإسرائيلي الداخلي لا تأثير له على مواقف القوى الدولية الرئيسية بخصوص الملف الشرق أوسطي، فإن الحقيقة الماثلة للعيان هي أننا نشهد تغيرا ملموسا في طبيعة علاقة الجاليات اليهودية بتفاعلات الوضع الداخلي في الدولة العبرية (التأثيرات السلبية لحرب غزة التي لم تنل تأييدا واسعا ولا قبولا عارما في الأوساط اليهودية الأميركية والأوروبية)، كما أن للمعادلة الأميركية الجديدة تأثيرا محتملا على طبيعة الموقف الإسرائيلي المرتقب، على اختلاف مشاهده الممكنة، التي لا شك أن أبرزها هو قيام ائتلاف حكومي واسع، سيظل في كل الأحيان هشّا ومؤقتا. فلقد أصبح من الجليّ أن إدارة الرئيس أوباما ستعتمد المقاربة الكلينتونية القريبة من أطروحات حزب العمل، الذي إن كان الخاسر الأكبر في الانتخابات الأخيرة، فإنه يبقى الطرف الأكثر قبولا في أميركا الجديدة، ولدى المجموعة الأوروبية.