الله يهنيه بأمه

TT

في أحد المجالس، كان هناك رجل فتح الله عليه، وكان أول ما بدأ حياته المهنية حلاقا، وبحكم أنني أعشق وأحترم كل (عصامي)، فقد تلطفت بالحديث مع ذلك الحلاق السابق، الذي لا يفتأ يفتخر بمهنته الأولى تلك، وهي التي، مثلما قال «فتحت له أبواب الرزق». وقد سألته قائلا «لا شك أنه قد انحنى تحت يديك الكثير من الرؤوس التي بعضها قاس، وبعضها ممتلئ، وبعضها قذر، وبعضها أجوف، فما هو أعجب رأس أو موقف مرَّ عليك؟»، فقال «كثيرة هي المواقف، غير أن هناك موقفا خُدعت فيه، ولا يمكن أن أنساه.. ففي أحد الأيام أتاني رجل ومعه طفل، وطلب مني أن أحلق رأسه، فيما كان الطفل جالسا ينتظر دوره، وبعد أن انتهيت من رأسه، طلب مني أن أحلق ذقنه، وبعد أن انتهيت، طلب مني أن (أضبط) شاربه، وبعد أن انتهيت، طلب مني أن أنتف الشعرات التي في أذنيه، ولم يبق له إلا أن يطلب مني أن أنتف الشعرات التي في داخل أنفه، وبعدها تناول زجاجة (الكولونيا) وضمخ وجهه، ثم طلب مني أن أحلق للطفل، واستأذن لعدة دقائق، لأنه يريد أن يشرب فنجانا من القهوة في المكان المجاور، ثم يعود، وبعد أن حلقت للطفل وانتهيت، أراد الطفل أن يخرج، فأمسكت به قائلا «انتظر حتى يأتي أبوك»، فقال الطفل «إنه ليس أبي، فقد شاهدني في الطريق وسألني إذا كنت أريد أن أقص شعري (ببلاش)، فوافقته، وأدخلني معه إلى صالونك»»، فسألت الحلاق السابق «هل ما زالت الحسرة في صدرك؟!»، قال لي «لا، أبدا، فالرجل كان ذكيا، وكبدني حلاقته وحلاقة الطفل ببلاش. كل ذلك كان بالنسبة لي مبلوعا، والله يعوضني عليه، ولكن أن يعطر نفسه بعد ذلك كله (بالكولونيا)، فهذا هو الشيء الوحيد الذي ما زال يزعجني إلى هذا اليوم».

* * *

قال محتجا وغاضبا «لو أن العالم كله في كفة، وأمي في كفة؛ لاخترت أمي.

سكتُّ، ولم أرد عليه احتراما لمشاعره، ولكن الآن، وبما أن كل شيء انتهى، لا بد أن أقول لكم إن أمه تلك، مع احترامي لها، التي يختارها ويفضلها على العالم كله، ما هي إلا امرأة عنيفة، سليطة، موغلة في خلق المشاكل وتحديات الآخرين، وتكاد، بل إنني أجزم، أنها تعيش بلا أي صديقات، امرأة غنية، بخيلة، أرملة، مات زوجها من شدة القهر والكمد، لم أشاهدها يوما إلا وهي عابسة، ولم أسمعها يوما إلا وهي شاتمة، ولم أفكر فيها يوما، إلا ويخطر على بالي (عزرائيل).. وقد سبق لها أن طردتني من دون أي وجه حق.

الله يهنِّيه بأمه، ويذهب معها بعيدا، ويترك لنا العالم لكي نسرح بين جوانبه.

[email protected]