جيل الحرب والهزيمة

TT

ظهر في الحرب اللبنانية جيل جديد من الصحافيين اللبنانيين. فقد كان هناك إذاعة رسمية واحدة وقناتان تلفزيونيتان، لكن الحرب شرَّعت باب الإذاعات الخاصة وخصوصا الحزبية منها. وكان أكثرها نجاحا ومهنية «إذاعة صوت لبنان» التي استطاعت الاستمرار وتجاوز حزب الكتائب الذي أسسها. ومن هذه الإذاعة ولد جيل تلفزيون توزع على القنوات التي أنشئت، كان من أبرز وجوهه مي شدياق، وماغي فرح، وسعيد غريِّب.

انصرف معظم خريجي كلية الإعلام إلى العمل الإذاعي والتلفزيوني وتجنبوا الصحافة المكتوبة. فالتلفزيون شهرة سريعة ووسيعة. وعندما أسست محطة الـ «ال.بي.سي» كان فيها الكثير من الاحتراف والتجديد، لكن خطها السياسي كان يمثل «القوات اللبنانية» التي وفَّرت الرأسمال، واجتذبت العاملين. وعندما دخل رئيس «القوات» سمير جعجع إلى السجن، تغيرت حصص الملكية، وتوسعت الـ «ال.بي.سي» كمحطة تجارية تهتم بالإعلان والدخل المالي. ولما عاد وخرج، أثيرت القضايا من جديد كما أثير موضوع سياسة المحطة. وفيما أحيلت المسألة إلى القضاء، دب الانقسام ضمن الأسرة العاملة. أو بالأحرى ازداد. فهذه المهنة مهنة لمعان وأضواء وبقائيات. وأصحابها يشعرون أنهم يملكون الناس، أو على الأقل يتنافسون على ملكيتهم. لكن مي شدياق شعرت أنها دفعت غاليا ثمن ميزة إضافية. فالانفجار لم يقتلها كما قتل جبران تويني وسمير قصير، إلا أنه قطع أطرافها، فتركها بساق واحدة ويد واحدة وملأ بقية الجسم حروقا لا تزول. وربما شعرت، في داخلها، أن المحطة التي رافقتها منذ اليوم الأول، مدينة لها، وأن بقاءها لم يكن فقط من أجل ذاتها بل من أجل الصحافة اللبنانية. ولذلك جمعت أطرافها الاصطناعية وعادت إلى الشاشة «بكل جرأة» غير مدركة أن الطبيعة البشرية قائمة على الملل والنسيان.

عندما أعلنت مي استقالتها مساء الثلاثاء الماضي، كانت تعتقد أنها ستفاجئ لبنان. لكن الكثيرين لم يفاجأوا. السياسات اللبنانية لا تترك مكانا للمفاجآت. والذاكرة اللبنانية رخوة وانتقائية. ويظن حامل الجراح أن جراحه همّ الناس الوحيد وآلامه آلامهم وعذاباته عذاباتهم. هكذا يظن. لكن جيل الحرب في لبنان لا يكف عن الاكتشاف أنه أيضا جيل الهزيمة.