إذا كان من التعجل (الجزم بتبدل جوهري) في السياسة الخارجية الأميركية بإزاء هذه المنطقة - مثلا - فإنه من (البطء الذهني)، أو التردد الفكري السياسي: (تجاهل) مؤشرات عديدة تشير إلى (حراك جديد) مختلف: بهذه الدرجة أو تلك.. قد يكون من أسبابه: سرعة الخروج الأميركي من المآزق التي ورط المحافظون الجدد بلادهم فيها بقسوة ماحقة، ذلك أن (المصالح الأميركية) هي معيار الحركة الأميركية في حالة الاستواء الوطني في القرار والأداء.
وأبرز تلك المؤشرات على التعديل أو التغير النسبي في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة: مؤشر (الانفتاح المتبادل) بين أميركا وإيران. فمنذ مجيء إدارة باراك أوباما: تبدّت تصريحات علنية من الطرفين تؤكد كلها على الاستعداد للحوار المباشر والتفاهم حول ملفات كثيرة. ولم تك هذه التصريحات هي (كل شيء) بل إنها تعبيرات مقتضبة عما تحقق (في السر) من لقاءات وتفاهمات موصولة الحلقات: الموضوعية والزمنية.
ومن الملفات المطروحة بين الطرفين: الدور الإقليمي لإيران في ظل ترتيبات أمنية واستراتيجية جديدة.. وهذا الدور هو أهم الملفات - بإطلاق - ولا سيما في نظر الجانب الإيراني.. ومن هنا كانت الدول الغربية كافة - وليست الولايات المتحدة وحدها - قد وجهت (رسائل استراتيجية) إلى إيران تتضمن الاعتراف بدورها الإقليمي.. وفي مقدمة هذه الرسائل ما سمي بـ (منظومة الحوافز) التي تقدمت بها - إلى إيران - الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا.. وقصة الحوافز ليست جديدة، وإنما الجديد فيها هو ما يمكن تسميته بـ (المكاسب الاستراتيجية الدولية التاريخية لإيران).. ومن توهم أن في التعبير مبالغة فليقرأ - معنا - بنود وفقرات (وثيقة الحوافز)، وهي وثيقة كشف عنها الأميركيون أنفسهم - بادئ ذي بدء-.. إن هذه الوثيقة تؤكد: أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، والاتحاد الأوروبي أولا: تبدي استعدادها للاعتراف بحق إيران في تطوير أبحاث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية لغايات سلمية.. ثانيا: تقدم هذه الدول ثمانية مجالات ممكنة للتعاون مع إيران. ومن هذه المجالات:
أ- في مجال الطاقة النووية: تقديم المساعدة المالية والتقنية (!!!) اللازمة للاستخدام السلمي للطاقة النووية والمساعدة في بناء مفاعلات تعمل بالمياه الخفيفة تعتمد على التكنولوجيا المتطورة.
ب- في مجال السياسة: دعم إيران للقيام بدور فاعل ومهم في الشؤون الدولية «!!!!»، ودعم مؤتمر حول القضايا الأمنية والإقليمية تشارك فيه إيران.
ج- التعاون مع إيران بشأن أفغانستان (!!!) خصوصا في ميدان حماية الحدود المشتركة بين إيران وأفغانستان ودعم إعمار إيران، ومكافحة المخدرات.
د- تعزيز علاقات الثقة المتبادلة بين إيران ودول مجلس الأمن زائد ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
هـ- تشجيع الاتصالات والحوار المباشر مع إيران، بما في ذلك الحوار المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية.
و- إنشاء آلية مناسبة للتشاور والتعاون.
ز- في المجال الاقتصادي: مساعدة إيران على تطبيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع بقية دول العالم والعمل على عودتها الكاملة إلى المنظمات الدولية ومن بينها منظمة التجارة العالمية.
ح- مساعدة إيران على التنمية الزراعية لتأمين الاكتفاء الذاتي الغذائي لإيران (!!!) عبر التعاون في ميادين التقنيات الحديثة.
ط- مساعدة إيران في مجال التأهيل في حقول إنسانية عديدة من بينها: الهندسة المدنية والزراعية والبيئية والتعاون مع إيران على تطوير قدراتها في مواجهة حالات الطوارئ مثل: الأبحاث المتعلقة بالزلازل أو توقع حدوث كوارث طبيعية.
هذه وثيقة غربية دولية (رسمية) قدمت لإيران في منتصف عام 2008.. وأول مفهوم استراتيجي كبير - في هذه الخدمة الاستراتيجية لإيران: مفهوم (الاعتراف الغربي الموثق والواضح والمكتوب بالدور الإقليمي والدولي لإيران).. وهذا الدور إنما هو (مطلب إيراني ثابت ومطرد) في كل العصور، ومن خلال الأنظمة السياسية المختلفة التي حكمت إيران: مذ كانت إيران.
ومن المفارقات التي تشق الذهن شقا من شدة الغرابة والذهول: أن ذلك كله قد جرى وأعلن في ذات الوقت الذي كان إعلام سياسي يدق طبول الحرب بين إيران وأميركا، ويتحدث: بصيغة تشبه الجزم بأن ضربة أميركية ستوجه إلى إيران بعد أيام أو بعد ساعات !!.. والأسوأ من ذلك: أن السياسيين - أيضا - كانوا يتصورون أو يتوهمون ذلك.. ومن أسباب هذا العمش السياسي الإعلامي، أو العمى الاستراتيجي:
1- المعلومة الذاتية الخاطئة التي تقدمها الأجهزة المختصة، وما يزيد المعلومة الخاطئة اضطرابا وفسادا: التحليل الغلط لها.
2- المعلومة المستوردة، وهي قد تكون قاصرة أو خبيثة: بهدف توريط من تُقدَّم له، أو بهدف خدمة (اللاعب) المتفَق معه سرا، والذي يظهر في صورة عدو!
3- تصور أن السياسة هي ما يظهر على (السطح) فقط، مع أن أبجديات السياسة - في التاريخ والواقع - تقول: إن كثيرا من السياسات: الإقليمية والدولية كان على عكس ما هو معلن أو على السطح. وهنا تصح عبارة جوته التي أجراها في (فاوست) على لسان ميفيستافيليس: «تظن أنك تشق طريقك بذاتك. والحقيقة أنك أنت الذي يتم دفعه وتوجيهه».
قلنا: إن منظومة من الملفات المهمة مطروحة بين الطرفين: الإيراني والأميركي. ولئن جرى التركيز على ملف (الدور الإقليمي الإيراني)، فإنما هو تركيز يتناسب مع أهمية هذا الملف وأولويته، وإلا فإن الملفات الأخرى بالغة الأهمية أيضا.. ومنها: ملف مستقبل العراق.. وملف مستقبل أفغانستان.. وملف الصراع العربي الإسرائيلي وانغماس إيران فيه.. وملف الترتيبات الأمنية والاستراتيجية المستقبلية للإقليم.
إن هذا المقال ليس للتنظير المجرد، وليس للمتعة الذهنية، وإنما كتب لاستنباط (العبرة السياسية) الواجبة مما جرى، ومما يجري. فما العبرة السياسية الواجبة؟
أولا: العبرة هي (إدراك المتغيرات).. فمن الجمود المعطل لكل نجاح سياسي: إغماض العينين عن (المتغيرات السياسية) والاستراتيجية، سواء نتج هذا الموقف عن الجهل المطبق أو عن (الاستيعاب الناقص) للأحداث والوقائع، أو عن القراءة الخاطئة للمشهد السياسي: ظاهرة وباطنة.. وباستثناء المعتقد الأسمى.. ووجود الدولة وسيادتها.. والأمن الوطني.. والحفاظ على مصالح الناس.. باستثناء ذلك ليس هناك (يقينيات) في السياسة، ذلك أنه من تعريفات السياسة الناجحة أنها هي مرونة (الحركة والموقف) أو هي (فن التلون).. ومن ذلك ما قالته هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية عن (العلاقة الجديدة المتغيرة) مع إيران، إذ قالت: «إن انفتاح الإدارة الأميركية على إيران بات قضية لا تقبل الشك».. وهذا تحول تام بالقياس إلى موقف سابقتها كونداليزا رايس.
ثانيا: بمقياس (المنافسة)، فإن إيران - بطموحاتها المعروفة - تبدو كأنها تتحرك في (فراغ).. ولذا فإن بالمقياس نفسه ينبغي وجود التحرك العربي القوي (نتحدث عن الحراك السياسي لا عن النظرة العنصرية) الذي ينشط من خلال الإمساك بأوراق رابحة، فإن الكسل الدبلوماسي زائد خلو اليد من الأوراق الرابحة يجعل إيران اللاعب الوحيد أو اللاعب الأقوى في الإقليم. وهذا ليس في صالح (التوازن الاستراتيجي) الذي ينبغي أن يكون.
ولسنا ندعو إلى عداوة ولا إلى صدام، فالناس وظروف الإقليم لا تسمح بذلك. وإنما ندعو إلى (المباراة) التي تعتمد على اللياقة والمهارة وسرعة الحركة وفن اللعب السياسي والحرص على تسجيل الأهداف بنزاهة وندية.
ثم نستدير بالسياق إلى (متغير آخر) وهو: هيمنة أعتى غلاة الصهيونية على مقاليد الحكم في إسرائيل عبر الانتخابات الأخيرة. فهو متغير ذو مخاطر مباشرة على أمن المنطقة واستقرارها. فقد أثبتت الانتخابات أن الشعب الإسرائيلي نفسه متعطش للدماء الفلسطينية والعربية ولذلك فوض قادته الدمويين في قيادته. وهذا وضع سيشحن - بلا ريب - شعوب المنطقة بأعلى معدلات الغليان وردود الفعل الموازية مما يتطلب من الأنظمة العربية أن تصحو من النوم لتكوين رؤية جديدة ناجزة، ليس لخدمة القضية الفلسطينية فحسب، بل لأجل المحافظة على استقرارها وإثبات أهليتها لمواجهة التحديات المهددة لأمنها الاستراتيجي.