في صناعة الرأي العام

TT

من يصنع الرأي العام في العالم العربي، سؤال يبدو وجيها وملحا، وسط وجود عدد غير بسيط من الاستحقاقات المختلفة التي يتم التعاطي معها عبر أطروحات متنوعة. فنحن حقيقة لا نعلم من «يتحدث» عن الشارع العربي ويدعي أن «الغالبية الساحقة» من المواطنين العرب يعتقدون بكذا أو يدعمون كذا وغير ذلك من الديباجات المؤدلجة سلفا لنصرة موقف على حساب آخر.

في ظل الغياب التام لأي استطلاعات للرأي جادة ومحترمة تستشعر اتجاهات العامة، وتقرأ مواقفهم إزاء العديد من المواضيع والمسائل، يكون بالتالي من السهل الحكم على المسألة بصورة «شخصية».

ظهرت لنا أصوات وأقلام مختلفة تدعي أنها تتكلم باسم «الأمة» و«الحق» و«الناس» و«المؤمنين»، وتقدم للناس في شتى وسائل الإعلام على أنها تمثل «هؤلاء»، وفجأة يصبح للناس متحدثون باسمهم، وآراء تقدم بالنيابة عنهم، حتى تصبح المسألة من المسلمات غير قابلة للنقاش، ويصبح مجرد التطرق لها ومحاولة مراجعتها انقلابا وخروجا عن العرف والجماعة، وبالتالي تكون هذه المسألة ذريعة للهجوم المحموم على من يقوم بعمل ذلك، وهذا النهج يبدو متأصلا في الذهنية العربية.

فعند الاطلاع على بعض الكتب والآراء والفتاوى الدينية لا يكون غريبا وجود عبارة مبهمة مثل «اتفاق جمهور العلماء» على مسألة معينة، من دون أن يكون هناك أي نوع من التوضيح أو التفسير عن من هم هؤلاء «جمهور العلماء»، وكم عددهم، وكم تبلغ نسبتهم من «إجمالي» العلماء، وبالتالي يصبح هذا «الرأي» له من المكانة والقدسية، بحيث لا يعود بالامكان نقاشه أو التشكيك فيه، على الرغم من أنه أولا وأخيرا وقبل كل شئ هو رأي بشري ليس أكثر.

وطبعا من الممكن تخيل نتاج هذه المسلمات التي تراكمت عبر السنين فهي التي «أدت» إلى صعود نجوم وأبطال أفذاذ يخلدون على الكراسي تدعمهم نسبة 99.99% في انتخابات «حرة» و«نزيهة»، وعليه سيستمر من «يجرؤ» على الحديث، باسم الناس تارة، وباسم الرب تارة أخرى، ليقول لمن يستمع إليه اتبعوني فأنا أدرى بمصالحكم، وأنا أمثلكم، ابقوا معي.

في ظل الغياب الحقيقي لمؤسسات مجتمع مدني تمثل أطياف المجتمع «الطبيعية» وتنقل آراءها ومواقفها «الحقيقية» بلا خوف ولا ذعر ورعب، لن يكون هناك بديل سوى الاستمرار في احتكار أصوات بعينها للهواء والكلمة، والاستمرار في تصديق العامة لهم بأنهم فعلا يمثلونهم ويتحدثون بالنيابة عنهم.

أهم القرارات وأهم السياسات في حياة الشعوب العربية لا مكان للرأي فيها ولا قيمة للرأي فيها، فكيف من الممكن بعد ذلك اعتبار هذه السياسات الناتجة أنها تعكس رغبة ومباركة الناس بجد وجدارة. والأمثلة المؤيدة لكل ذلك تحاصرنا من كل جانب ومن كل صوب. أي مقولة «تؤكد» أنها تحتوي على رأي الشارع العربي أو رأي القاعدة الكبرى فيه، وغير ذلك من الديباجات المفخخة، لا يمكن الاعتماد عليها ولا تصديقها، بل لا بد من اعتبارها وسيلة جديدة «للتأثير» وللتخدير وتسييس الوضع لمآرب أخرى. والحذر من كل ذلك مطلوب جدا لأن الفترة القادمة ستشهد المزيد من ذلك.

[email protected]