البنية التحتية للتفوق

TT

استكمالا للمقال السابق «ماذا لديهم وينقصنا»، يأتي هذا الحديث مكملا. وبالمناسبة، عندما أقول «ماذا لديهم وينقصنا»، فأنا لا أعني إسرائيل فقط، بل كل أولئك الذين شقوا طريقهم في عالم اليوم، في حين بقينا على حالنا نادبين سوء الحظ ومؤامرات القريب والبعيد. فإسرائيل انتقلت من مصاف «دويلة عصابات»، إلى مصاف دولة فرضت إرادتها على عالم عربي بأسره، بكل تاريخه وموارده وثقافته. واليابان فرضت إرادتها على آسيا وحتى على أميركا في النهاية، وأصبحت واحدة من أسياد هذا العالم، دون أن يكون لها جيش جرار أو قنبلة نووية، وذلك بعد هزيمتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية، التي جعلتها تعيد التفكير في وضعها، ودفعتها إلى أن تتخذ نهجا مختلفا عن السابق، فأصبحت في النهاية ما هي عليه اليوم، وكذلك فعلت ألمانيا، واليوم ها هي الصين والهند تفعلان ذات الشيء. السؤال المطروح هو كيف فعلوا ذلك؟ كيف حولوا الهزيمة إلى نصر دون اللجوء إلى عسكرة كل شيء، وأدلجة كل شيء، وكانت أسلحتهم غير العسكرية أقوى الأسلحة. لو كانت المسألة بالموارد وحدها، لسيطرنا على كل العالم، ولنافستنا أفريقيا على ذلك، ولكن ليس بالموارد وحدها يتفوق الإنسان، فاليابان وألمانيا والصين وكوريا وسنغافورة وماليزيا وغيرها، ليست الأغنى مواردَ، ولكنها الأغنى في أمور أخرى. الجواب بكل بساطة، وأعضل المسائل بسيطة المحتوى حين الوصول إلى قعرها، الجواب يكمن في ثلاثة أمور: القانون، العلم، والحرية. نعم، قد يكون هنالك أمور أخرى تُساعد هنا أو هناك، ولكن بدون هذا الثالوث، أو لنقل البنية التحتية للتفوق، فإنه لا منافسة ولا تفوق، بل هو بقاء الحال على حاله.

سبق لأفلاطون أن قال قبل آلاف من السنين بأن القانون هو القيد الذهبي، وهو ما قاله أستاذه سقراط من قبله، وما قاله تلميذه أرسطو من بعده، وعلى ذلك يعلق العالم الحقوقي الدكتور عبدالرازق السنهوري: «الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف، ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون». فالقانون، بوصفه نصا مجردا، لا يفرق بين غني أو فقير، طويل أو قصير، أسود أو أبيض، وزير أو غفير، سني أو شيعي، عربي أو أعجمي، فالكل بالنسبة له سواء، أو هكذا يُفترض أن يكون الأمر، حين يسود القانون، ويكون الحكم للمؤسسات. القانون ببساطة هو العدل والمساواة بأسمى معانيها، وهي المساواة التي قد يكون من الصعب تحقيقها اجتماعيا واقتصاديا، ولكن القانون يُعبر عنها إنسانيا. فأمام القانون، الإنسان هو فرد دون إضافات جاءته بعد المولد، من مال أو جاه أو منصب، وهذا ما يعبر عن روح العدل والمساواة، حتى وإن كانت المساواة غير متاحة في أمور أخرى، وهو ذات ما عبر عنه النبي (ص) في الحديث الشريف: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها».

القانون هو ضمانة مستقبل والإيمان بالمستقبل، حيث إن سيادة القانون تشكل أحد دعائم الاستقرار، من حيث إنه دعم لشرعية الدولة والولاء لها من ناحية، وتعزيز لثقة المواطن بعدالة النظام والشعور بالأمان من ناحية أخرى، وفي النهاية لا مستقبل، أو إيمان بالمستقبل، بدون استقرار وإحساس بالأمان، وولاء وثقة في النظام. والقانون، حين يُطبق ويسود، هو ملاذ البائسين، حتى لو كان هذا القانون ظالما وجحودا في نظر البعض، أو أنه ليس إلا تعبيرا عن مصالح الطبقات العليا في المجتمع، كما يرى ذلك مثلا كارل ماركس، من أن القانون ليس إلا جزءا من البنية الفوقية للنظام الاجتماعي، وبذلك هو شرعنة لظلم الظالمين، واستبداد المستبدين. قد يكون ذلك، فهذه مسألة فيها نظر، ولكن حين تطبيقه دون تفرقة، حتى لو كان كما وصفه ماركس، فإنه تكريس لمبدأ المساواة، وتأكيد لنوع من إنسانية قابلة لأن تتسع أكثر وأكثر مع مرور الأيام، وأكبر دليل على ذلك هو الولايات المتحدة وغيرها، حين كان القانون حكرا على بعض البشر، ثم انتهى به المطاف لأن يشمل كل البشر، ولكن المهم في كل ذلك هو التطبيق. وفي بلادنا العربية هنالك قوانين ودساتير في غاية الإنسانية والجمال، ولكن التطبيق فاشل تماما، أو أنه ليس هناك تطبيق على الإطلاق، حيث يتحكم الطغيان والعشائرية والمناطقية والطائفية والعنصرية في مصير الإنسان، فتقطع يد فقير سرق رغيف خبز لأطفاله الجوعى، ويبقى لص دون عقاب رغم أنه سرق القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. أما في إسرائيل، فرغم كرههم للعرب، وكل ما يتعلق بالعرب، إلا أن المواطن العربي الإسرائيلي ينتخب بحرية، ويُقاضي أمام المحاكم الإسرائيلية بحرية، ورغم كل ما يعانيه من تفرقة لا علاقة للقانون بها، يُفضل العيش في الدولة الإسرائيلية على أن يعيش في أي دولة عربية، وقد سمعت مثل هذا الكلام من عدة أشخاص من عرب إسرائيل.

أما الضلع الثاني في ثالوث التفوق فهو التعليم، ففي النهاية نحن ما عُلمنا، وما نشأنا عليه، وأهم مؤسسات التنشئة في المجتمع هي مؤسسات التعليم. فالتعليم إنما يُشكل العقول، والعقل المُنتج يحدد السلوك، ونظرة المرء إلى نفسه ومجتمعه والعالم من حوله. فإذا كان العقل الذي يقف وراء العملية التعليمية ويحدد مسارها عبارة عن عقل يقوم على أسس إيديولوجية معينة، وخاصة عندما تكون مرتكزات هذه الايديولوجيا هي النفي والإقصاء وثقافة الكراهية لكل ما عداها، كما في الايدولوجيات الشمولية، فإن الناتج هو فرد مؤدلج ومجتمع مؤدلج، ينظر إلى الحياة من خلال مفاهيم معينة لا يقر بغيرها، وبالتالي يُصبح خارج المنافسة، وذلك لأن المنافسة والتفوق إنما يقومان على مبادئ وأفكار وقوانين لا يعترف بها العقل المؤدلج، وذلك مثل جماعة لا يلعبون إلا لعبة «الغميمة» مثلا، ولا يعترفون بغيرها من ألعاب، ولكنهم مع ذلك يريدون المنافسة على كأس العالم في كرة القدم، وهذا أمر لا يستقيم. بطبيعة الحال كل عقل فيه شيء من الأدلجة، فالأدلجة جزء من التكوين الثقافي لأي فرد ومجتمع وكل فرد ومجتمع، ولكن حين تكون الأدلجة هي كل شيء، وتدخل في كل شيء، حتى بديهيات الحياة، فهنا يكمن الخلل وتبيت العلة. فعندما يُصبح التعليم بهذا الشكل، فإنه يتحول إلى تجهيل حقيقة، حين يدخله الفرد بعقل فطري نظيف، ويخرج منه وقد تلوث هذا العقل، فأصبح سجين مفاهيم لا تخدم الإنسان، ولا تدفع بالأمة أو المجتمع إلى الصدارة، أو حتى مجرد المنافسة، في عالم شعاره «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».

أما فلسفة التعليم التي تقوم على أساس أن العلم، والعقل الذي يقف وراء هذا العلم، هو وحده المؤهل للمنافسة في عالم اليوم، فإنها تُنشئ عملية تعليمية تقوم على مرجعية العقل والحقيقة العلمية، وهذه المرجعية تستوجب أن يكون التفكير لا التلقين، والبحث لا التلقي، وثقافة السؤال لا ثقافة الجواب الجاهز، هي عمودها الفقري. بمثل هذه الفلسفة قامت كيانات دول ومجتمعات لم تكن في ماضيها شيئا مذكورا، حين كانت رازحة تحت قيود الجواب الجاهز، والخرافة بوصفها حقيقة، ووهم أن التفوق يُمكن أن يُحقق عن طريق العسكر أولا، أو بمعجزة تأتي من بطن الغيب، ونحن نعلم أن عصر المعجزات قد انتهى مع وفاة آخر الأنبياء والمرسلين، وما اليابان وألمانيا إلا نموذجين لأمتين أعادتا التفكير بوضعهما، فتغير وضعهما، وأصبحتا من أسياد هذا العالم.

وثالث الأركان أو الأضلع في ثالوثنا هو الحرية، التي بدونها لا معنى للقانون ولا جدوى من التعليم، حتى وإن بدا الأمر غير ذلك. فالاتحاد السوفيتي السابق مثلا، بل وأوروبا الشرقية عموما، كان لديهم قانون، وكان لديهم تعليم يقوم على أساس مرجعية العقل والعلم، ولكن مع أدلجة مكثفة، ومع غياب للحرية الفردية، فكان الانهيار هو المآل، نتيجة الأدلجة المفرطة، وغياب الحرية. صحيح أن سباق التسلح مع الولايات المتحدة كان له أثر عظيم في تقويض الاتحاد، ولكن غياب الحرية هو الأساس، وما كان سباق التسلح إلا تسريعا للانهيار، فغياب الحرية يعني غياب الولاء للنظام الحاكم، وهذا هو ما حدث فعلا في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية.

في جو من الحرية يشعر الفرد بأنه مواطن فعلا، له حقوق واضحة في مقابل الواجبات المفروضة عليه، وكل ذلك محمي بسيادة القانون، فيعطي الولاء مخلصا للوطن، دون أن يكون مجبرا على إظهار ذلك، حتى وإن كان يُخفي عدم الولاء والسخط على الأوضاع، فيختفي النفاق السياسي. وفي ظل الحرية، المؤطرة بالقانون، والتي ينشأ عليها أفراد المجتمع من خلال عملية تعليمية تجعلها جزءا من النسيج الثقافي للمجتمع، يُبدع الفرد في مختلف المجالات.

عندما تجتمع هذه الأركان الثلاثة، القانون والتعليم والحرية، في ظل ثقافة منفتحة على التغيير والقابلية للتغير، فإنه يمكن القول إن المجتمع أصبح مؤهلا لأن ينافس ويتفوق وينتصر، وبغير ذلك أشك في الأمر.. أشك..