منظمة التحرير: بين المرجعية الثابتة والمرجعية البديلة

TT

عاشت المنطقة العربية في الأسابيع الماضية عاصفة سياسية، مشابهة تماما لعواصف الطبيعة، حيث تأتي النذر أولا ثم تهب العاصفة، وتخلف العاصفة الدمار وراءها، ثم يهب الجميع للمساعدة وإعادة البناء. وقد يحدث أن يختلف البناؤون، بين قوم يريدون إعادة كل شيء إلى ما كان عليه في السابق، وبين قوم آخرين يريدون استغلال الفرص لبناء شيء جديد.

في وسط هذه العاصفة السياسية كان هناك صراخ، وكان هناك مشادات، وقد تعصب كل طرف لمكانته وموقفه ومطلبه، ثم هدأ كل شيء، وأدرك الجميع أنهم يحتاجون إلى التفاهم مهما كانوا مختلفين، وأنهم يحتاج بعضهم إلى بعض مهما كانوا متباعدين، وبدأت مرحلة من مراجعة النفس عربيا وفلسطينيا.

وإذا أردنا أن نتجاوز حالة العتاب إلى حالة الفحص والتحليل، تتجمع لدينا مجموعة من المواقف التي تحتاج إلى إعادة نظر، لعل أبرزها ما يتعلق بالمرجعية الفلسطينية، وهي القضية التي أثارت جدلا عاصفا في الأيام الماضية.

ومع أن الحوار حول هذه القضية الهامة قد تطرف إلى حد الإسفاف، فإن هذا الحوار لا بد أن يستمر ويتعمق ويتواصل، ولكن لا بد أولا من إرساء أعمدة الأساس قبل المضي في البناء، أو لا بد من تنظيف المسرح قبل فتح الستار.

منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، منذ أن تأسست، ومنذ أن أعطتها القمة العربية هذه الصفة في عام 1974، ومنذ أن أصبحت في العام نفسه عضوا مراقبا في الأمم المتحدة.

منظمة التحرير الفلسطينية جمع الناسَ حولها من كل الاتجاهات ميثاق وطني، يسجل الرؤية التاريخية للقضية الفلسطينية، ويرفعها في وجه الرؤية الصهيونية المزيفة. وهو الميثاق الذي تم إلغاؤه في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة عام 1996، وفي اللقاء الفلسطيني المنعقد في غزة عام 1998 بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وهو الميثاق الذي لا بد من إعادة تثبيته.

منظمة التحرير الفلسطينية أعلى من «السلطة الفلسطينية»، سلطة أوسلو، وهي مرجعية هذه السلطة، وهي أيضا مرجعية القرار السياسي الفلسطيني. وكل هذه أمور ليس من السهل التفريط فيها.

ولكن منظمة التحرير تعرضت بالمقابل إلى عملية تهميش، حلت محلها السلطة الفلسطينية، سلطة أوسلو، حلت محلها عمليا، حتى أصبحت السلطة هي الأساس وأصبحت المنظمة هي التابع لها. وذلك حين بادرت السلطة إلى الاستيلاء على صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية، ومن أبرزها:

- جيش التحرير الفلسطيني تم استيعابه في أجهزة السلطة الأمنية، وأحيل من لم يتم استيعابه إلى التقاعد.

- الصندوق القومي الفلسطيني أصبح تابعا لوزارة المالية، ولم ينتخب المجلس الوطني الأخير (مجلس 1996) رئيسا للصندوق القومي كما جرت العادة منذ التأسيس.

- سفارات منظمة التحرير أصبحت تابعة لوزارة الشؤون الخارجية، وزارة السلطة.

- دوائر منظمة التحرير الفلسطينية انتزعت من الدائرة السياسية وأصبحت تابعة عمليا للرئاسة الفلسطينية.

- تلاشت «دائرة التنظيم الشعبي الفلسطيني»، وتلاشت «دائرة الوطن المحتل»، وتلاشت «الدائرة العسكرية»، ولم يتم إنشاء دوائر بديلة لها تعبر عن واقع جديد.

- والأهم من كل ذلك أن الهيئة القيادية الأعلى في منظمة التحرير الفلسطينية، ونعني بها المجلس الوطني الفلسطيني، لم يتم تجديده ولم يتم تطويره، ولم يتم دعوته للاجتماع منذ عشرين عاما أو يزيد، بحيث أصبح، وهو الهيئة التشريعية الأولى، هيئة هرمة ولا دور لها.

- كذلك أصبح حال الهيئة القيادية المنبثقة عنه (اللجنة التنفيذية)، فهي على حالها منذ عشرين عاما أو يزيد، لم تتجدد ولم تتطور، حتى أصبحت على أبواب فقدان النصاب بسبب الاستقالة أو الوفاة.

إن هذه المواصفات الواقعية القائمة الآن لمنظمة التحرير، هي المواصفات التي تدفع نحو توجيه النقد لمنظمة التحرير، أحيانا من أجل إعادة بنائها، وأحيانا من أجل إيجاد قيادة بديلة لها، بعد أن تلاشت أو تجمدت أو اهترأت. وهذه المواصفات هي التي تحتاج إلى وقفة جادة من أجل وضع صياغة جديدة للمنظمة يتوافق حولها الجميع، وتكون قادرة على استيعاب الجميع، بعد أن تبين من خلال الجدل والنقاش والملاسنات أن لا أحد يريد تدمير المنظمة، إنما كثيرون يريدون تفعيلها وإعادة بنائها.

وحين نصل إلى السؤال الصعب: كيف؟ تنبري الفصائل الفدائية كلها، من فتح إلى حماس، لتذكر باتفاق القاهرة الموقع عام 2005، وهو الاتفاق الذي صاغ خطة لإعادة بناء المنظمة، وتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد. ويوحي حديث الفصائل هنا أن إعادة البناء هي عملية ستتم بين الفصائل، وحسب القواعد التي اتبعت سابقا. ولكن تغيرات كثيرة وقعت خلال السنوات السابقة، انهارت فيها فصائل وبرزت فصائل، وانهارت نقابات وبرزت نقابات، وانهارت أشكال للعمل السياسي وبرزت قوى اجتماعية تمارس عملا سياسيا من نوع جديد. لقد جرت مياه كثيرة في النهر كما يقولون، بحيث إن إعادة بناء منظمة التحرير أصبحت تحتاج إلى رؤية جديدة، من أبرز بنودها:

أولا: ضرورة إعادة النظر في كون الفصائل الفدائية هي العمود الفقري لمنظمة التحرير. فهناك فصائل فدائية لم تعد موجودة إلا بالاسم، وهناك فصائل فدائية كفت عن ممارسة العمل الفدائي.

ثانيا: ضرورة إعادة النظر في تمثيل النقابات والاتحادات المهنية في المجلس الوطني، بحيث لا يدخل المجلس إلا مندوبون يمثلون نقابات موجودة فعلا، وانعقدت مؤتمراتها المنتخبة فعلا، وتم انتخاب أماناتها العامة فعلا، بحيث تنتهي حالة الشلل، بل حالة الموات، التي تعيشها هذه النقابات منذ سنوات طويلة.

ثالثا: بذل أكبر جهد ممكن من أجل تشكيل مجلس وطني على قاعدة الانتخاب، وعادة ما تستخدم هنا كلمة (الانتخاب حيثما أمكن)، وتتم ترجمة هذه الكلمة بمعنى استحالة إجراء الانتخابات، وتتم العودة إلى قاعدة التعيين من جديد. وما نحتاجه هو استكشاف فعلي لإمكانية إجراء الانتخابات. وفي اعتقادي أنه إذا استثنينا الأردن فإن من الممكن إجراء الانتخابات في أوساط التجمعات الفلسطينية كافة، أي في البلاد العربية، وفي أوروبا، وفي الأمريكتين.

رابعا: جرى العرف سابقا بأن يتم تخصيص مقاعد في المجلس الوطني لما يسمى (المستقلون) أو (الكفاءات). وهذا توجه إيجابي، ولكن هناك حاجة لتطوير هذا المفهوم لانتزاعه من صفته الحيادية أو الفردية.إذ لا بد من تمثيل القوى الاجتماعية الفلسطينية داخل المجلس الوطني، بل لا بد من أن يكون تمثيل هذه القوى الاجتماعية هو الأساس، بدلا من الأساس السابق الذي كان قائما على قاعدة (كوتا الفصائل).

وما نعنيه بالقوى الاجتماعية هنا: النقابات، والاتحادات المعنية، والأكاديميون، والإعلاميون، ورجال الأعمال. وما نعنيه أيضا هو الجاليات الفلسطينية التي تلاقت ونظمت نفسها في أكثر من بلد عربي، وفي بلدان المهاجر الأوروبية والأميركية. وما تعنيه أيضا هو منظمات ومؤتمرات حق العودة التي نمت وتطورت منذ عام .

ولكن البعض في منظمة التحرير يتصور أن مجرد دعوة اللجنة التنفيذية، أو المجلس الوطني الفلسطيني للاجتماع، هو إحياء وإعادة بناء لمنظمة التحرير. بينما الحقيقة... أن من يقولون بهذا، ولو بصوت عال جدا، هم من هدم منظمة التحرير ... وسيحاسبهم التاريخ.