هل نحن صادقون في نيتنا بالسلام؟

TT

تضارب تصريحات القيادة الفلسطينية وكثرة زياراتها للدول العربية، أضف الى ذلك الصراع القائم مع المعارضة الذي وصل الى تبادل اطلاق النار بعد التراشق بالتهم، كلها ظواهر لا تدعم إلا مقولة اسرائيل الكاذبة عن «خوفها» من حالة العداء العربية لها. ولا تدل إلا على ان الفلسطينيين غير جادين في السلام نظرا لاختلاف آرائهم في السلام وانعدام الرؤية الفلسطينية الواضحة لمفهوم السلام. وهكذا فكل ما سبق، وكل ما نجنيه حاليا من هذا السيناريو من استشهاد وانتظار وفقر واضطرابات لا يدفع ثمنه إلا الإنسان الفلسطيني الكادح ابتداء من فقد قوت يومه وانتهاء بفقدان حياته.

فتارة يصرح قيادي معترفا باسرائيل وبحدودها ضمن قرار 242، ثم يأتي آخر ويعود الى الشرعية الدولية التي رفضت سابقا من قبل جميع الدول العربية وهي قرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، ثم يصرح ثالث بأن الدولة الفلسطينية القادمة هي القاعدة والبداية لتحرير كل أرض فلسطين التاريخية، ثم يصرخ رابع بأننا «لا ولن نرضى بالتعامل والتفاوض مع الدولة العبرية.. فهذا مخالف لديننا وشريعتنا».

وسط كل هذا، سراً يؤكد المفاوضون التنازل عن حق العودة، وان عدداً صغيراً جداً سيختار العودة الى أراضي فلسطين التاريخية. ثم مرة أخرى وعلانية يصرحون بأن حق العودة مقدس ولا يمكن التخلي أو التفريط به وبأن التنازل عنه مخالف للشريعة والدين.

ويبقى اللاجئ الفلسطيني قابعاً مكانه في مخيمات دول المنطقة، التي يربطها عامل مشترك واحد هو البؤس والانتظار، ويبدأ التصعيد مرة أخرى!، أما النتيجة فدوامة من العنف الأهوج، يقابله «ارهاب دولة» منظم مشبع بالكراهية وحب الانتقام، ويتساءل العالم «ماذا يريد هؤلاء الناس»؟؟

من وجهة نظر الإنسان الفلسطيني يريد حقه المشروع في مقاومة الاحتلال.. وحقه المشروع في الحياة على أرضه.

ومن وجهة نظر الدولة العبرية، بدعم من المجتمع الدولي، تريد حقها في الدفاع عن بقائها وبالتالي يحل لها ما يحل لغيرها.. حتى وان اضافت اليه عنصرية لم يشهد لها العالم مثيلا حتى في جنوب افريقيا.

بالأمس فقط كانت القيادة الفلسطينية تتغنى باحرازات أوسلو.. وبأنها مهدت طريق العودة إلى فلسطين التاريخية. لكنها الآن تعترف بأكبر خطأ لأوسلو.. وهو تأجيل ملف المستوطنات.

وغدا ستعترف ببقية الأخطاء وهي كثيرة.

بالأمس كانت تنادي بوجوب حماية دولية وبمراقبين دوليين وبين لحظة وضحاها تنازلت فقبلت ـ حسب الطلب الاسرائيلي ـ بمراقبين أميركيين، وحتى هذا المطلب لا يزال يراوح مكانه.

بوجود مراقبين أم بغيابهم، الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي مسؤولان عن سلامة المدنيين وكل من الشعبين خاسر في حسابات المبادئ الانسانية والقيم الروحية. فرغم اختلاف الظروف والمعادلات يبقى العامل المشترك الواحد بين الجميع هو انه بدون ان نجعل السلام خيار الشعبين لن يمكن ان ينتهي الصراع. وما لم نعد الى الاخلاقيات والقيم الانسانية التي نسيناها في غمرة العنف لن نستطيع ان نبني مستقبلا. اسرائيل غيرت وعدلت وزودت من مطالبها.. وبدلا من ان ترضى بالاعتراف بها، عادت تنادي بأن أرضها التاريخية من البحر الى النهر.. مقابلة بذلك المطلب الفلسطيني بحق العودة لثلاثة ملايين فلسطيني، جزء منهم نجح في بناء حياة جديدة في وطن جديد.

ويظل فلسطينيون آخرون يدفعون ثمن مزايدات عربية تركتهم في مخيمات البؤس وأخذت منهم حقهم في القرار نفسه حين حرموا من الاشتراك في معاهدة الهدنة التي عقدت في لوزان عام 1948 مع الدولة العبرية.

آنذاك لم تلتزم هذه الاخيرة حتى بقرار التقسيم الدولي.. بل وسعت حدودها تحت اسم «حدود للهدنة» ووقعت الدول العربية على هذه الحدود بأمل ان تمحى اسرائيل يوما ما، وجعلت من الفلسطيني لاجئا تحول بمرور السنين الى عبء وهذا الجزء من الشعب الفلسطيني لم يسأل عن خياره واسقط في محادثات السلطة الفلسطينية في أوسلو.

نعم اسرائيل استعملت أسلوب التشدد بالمطالب ورفع سقفها مستقوية بتفوقها العسكري، بعدما نجحت في تحييد الدول العربية وتأكدها من انعدام الاستراتيجية الحربية تماما، فاستفردت بالانسان الفلسطيني للتفاوض والقبول بدون خيارات. فإما أراض تخضع لسيطرتها في كل الاحوال واما «دويلة» مقطعة الأوصال. ولكن في الحالتين رفضت مبدأ حق العودة بالمطلق.

اسرائيل تعودت منا على تقديم التنازلات، وبالتالي ارتأت ان أفضل شيء هو تصعيد سقف المطالب، وبخاصة وتحت شعار الأمن.

العقبة الوحيدة الآن أمام الحكومة الاسرائيلية ليست القيادة الفلسطينية بل الإنسان الفلسطيني، وهذا الإنسان هو الداء ولكنه ايضا الدواء واحدى جرعات هذا الدواء ترشيد الانتفاضة وتطويرها، نعم تغيير الاسلوب مع ابقاء الاقتصاد الاسرائيلي على حاله وحرمانه من الانتعاش، خاصة القطاع السياحي.

على الإنسان الفلسطيني سواء من السلطة الحالية أم من المعارضة ان يتكلم بصوت واحد.. وبأهداف واحدة ومحددة.

ان يعلن استعداده للاعتراف بحق الدولة العبرية في الوجود، وباجماع من كل الفصائل الفلسطينية، على ان حدود الدولة الفلسطينية هي الحدود النهائية التي ستقدم بالموافقة مع الدولة الاسرائيلية للأمم المتحدة. وعلى ان التعامل بين الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية سيكون وفقا للمعايير الدولية ومواثيق الأمم المتحدة التي تنادي بالسلم والأمن لكلا الدولتين. والأهم رؤية واضحة وموضوعية لحقوق اللاجئين على اعتبار انهم ضحية المجتمع الدولي.. وبريطانيا.. واسرائيل الى جانب انهم ضحية المعاملة اللاانسانية التي ما زالوا يعانون منها في بعض الدول التي استضافتهم.

ان قضية اللاجئين هي أهم عنصر في الصراع العربي الاسرائيلي، ولا يمكن انهاء هذا الصراع من دون طرحها بصدق، وبموضوعية وجرأة.

فقرارات الجمعية العمومية رغم انها تمثل الارادة الدولية، فهي حسب قوانين الأمم المتحدة ذاتها غير ملزمة حتى وان اعيد تثبيتها مئات المرات كما في قرار العودة 194، وهذه حقيقة بنينا عليها ألف خيال، وما يجب ان نأخذه بعين الاعتبار ان المجتمع الدولي، بغض النظر عن اعترافه بحقوق اللاجئين الفلسطينيين لاحقا، يستحيل ان يصلح خطأ اغفاله حق الانسان الفلسطيني حين شرع وجود الدولة العبرية، عبر اتخاذه قرارا يسمح فيه بعودة ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني.

لن يقبل المجتمع الدولي حق العودة للاجئين الفلسطينيين حتى لو أكدنا مليون مرة أنهم لن يختاروا العودة.. ولن يهددوا سلام الدولة العبرية.

علينا ان نتعلم من اخطائنا.. وان نغير من سياستنا حين نجد ان هذه السياسة لم تثمر أية نتائج ايجابية.

والواضح انه حان الوقت الآن للانفصال واقامة دولة فلسطين جنبا الى جنب مع الدولة العبرية من دون مستوطنات، ومن الممكن استعمال المستوطنات الحالية ضمن خطة دولية كجزء من حل مشكلة اللاجئين، خاصة أولئك الذين ما زالوا في المخيمات والبدء بالأكثر بؤسا.

علينا البدء بعمل مسح شامل لعددهم وظروفهم المعيشية مع اعطائهم الخيارات المعقولة والمقبولة دوليا، ومنها خيار العودة الى الدولة الفلسطينية المقبلة، أو بدء حياة جديدة في أي ركن يختارونه من بقاع الأرض، وتطبيق رمزي للقرار 194، ثم التقدم بهذا عن طريق الأونروا كعرض فلسطيني بالاجماع للسلام للأمم المتحدة.

أما التشبث بقرار لا يتمتع بحد ذاته بقوة تنفيذية. فعبث وتلاعب في مستقبل اللاجئ.

وليس من مصلحة اللاجئ الفلسطيني الاعتماد على عامل الزمن بعد معاناة طالت 53 سنة، وليس من حق أي سلطة ان تطلب منه انتظار النصر الموعود في الوقت الذي لا أحد في العالم العربي يسعى الى التحرير أو يملك أياً من مقومات النصر.

فلدى المنطقة العربية مشوار طويل للتنمية والتقدم، ومن غير المعقول ان يعتمد هذا الانسان الفلسطيني على خيار ليس أصلا بيد الانسان العربي، لا سيما ان المنطقة العربية تفتقر الى الديمقراطية والعدالة والقانون.. ومن المستحيل ان يبقى الانسان الفلسطيني قابعا ينتظر تفكك الدولة العبرية وصحوة القومية العربية.

ومن دون تحييد الانسان الاسرائيلي لن نستطيع احراز مصداقية دولية في طلبنا للسلام العادل.

* ناشطة في مجال حقوق الانسان