هل يمكن للشراكة الروسية ـ الصينية أن تواجه الصدارة الأمريكية؟

TT

يدرك الروس كما الصينيون ان ثمة فارقا كميا ونوعيا يفصل بين قدراتهما معا والقدرات الامريكية. فأمريكا تمتلك من عناصر الصدارة في كافة الميادين العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية ما يفوق امكانيات الدولتين على منافستها.

اكثر من ذلك، ان مصالح كلتا الدولتين مع غريمتهما امريكا تفوق المصالح القائمة بينهما.. فأمريكا تمثل السوق رقم واحد للمنتجات الصينية، من هنا تكمن مصلحة الصين في ضرورة استمرار تدفق منتجاتها على الاسواق الامريكية بما يكفل استمرارية النمو المتسارع في اقتصادها. وتمثل امريكا «حارس البوابة» امام تدفق المساعدات والقروض الدولية لروسيا التي تسمح لها بمواجهة اكثر المدفوعات الحاحا، خصوصا دفع رواتب الموظفين بشكل منتظم وانقاذ نظام التقاعد المنهار.

وبالمقابل، فان عددا من الخبراء الروس رأوا في معاهدة الصداقة التي وقعها الزعيمان الروسي والصيني في موسكو اخيرا انها تنطوي على مخاطر مؤجلة لروسيا. فالتعاون الاقتصادي بين البلدين يركز على حصول بكين على التقنيات الروسية العالية في مجال صناعة الاسلحة بما فيها الطائرات والصواريخ والدبابات، وقد خصصت الصين لهذا الجانب في موازنتها للعام الحالي نحو 15 مليار دولار. وبالرغم من اهمية هذه الصفقات بالنسبة للاقتصاد الروسي، فان ذلك سيؤدي الى تجهيز افضل للجيش الصيني بما يجعله افضل نوعيا واكثر عددا من الجيش الروسي غير القادر على شراء المزيد من الاسلحة، ولأن مصالح الدولتين ستتصادم عاجلا او آجلا بسبب سعي الصين للتحول الى دولة عظمى مسيطرة في الاقليم الاسيوي في الوقت الذي ترغب فيه روسيا الاحتفاظ بمكانتها السياسية في هذا الاقليم. ويزيد هؤلاء الخبراء بأن معاهدة التحالف التي كانت تجمع بين بكين وموسكو اعتبارا من عام 1950 لم تمنعهما من الخصومة والتصادم حدوديا في عام 1969.

ولكن، في خارج الصين وروسيا، اعتبر المراقبون ابرام المعاهدة بانه يستهدف مواجهة احادية الولايات المتحدة، وذلك بإحداث نوع من التوازن للهيمنة الامريكية. ومن المؤكد ان مشاعر الحذر تسود الآن الدوائر الامريكية المعنية لجهة المعاهدة، على الرغم من ان التصريحات الرسمية الامريكية قالت انها لا تعتبر المعاهدة تهديدا خاصا بها. وقد سبق لمستشارة الامن القومي (كوندوليسا رايس) ان اعتبرت زيارة الرئيس بوتين الى كوبا استفزازا للولايات المتحدة، بل انها في مناسبة اخرى وصفت روسيا بأنها ما زالت تشكل تهديدا لبلادها، ومن جانبها النخب السياسية الروسية بات يتغلب لديها الشعور بأن الولايات المتحدة الامريكية تتعامل مع بلادها تحت وطأة شهوة الاذلال، وكانت تجربة العقد الاخير من القرن العشرين شاهدا على ذلك، اذ ان هذه النخب الروسية كانت مغرمة بكل ما هو امريكي في بداية التسعينات، حتى اضحى التوافق مع امريكا يصير عقيدة لديها، فقد ذهبت اولى الحكومات في عهد الرئيس بوريس يلتسين الى نشر توقعاتها في ان البلاد ستتحول الى بلد رأسمالي في غضون خمسمائة يوم، وذهبت تلك الحكومة الى الاخذ بالتوجيهات التي قدمها فريق المستشارين الامريكيين برئاسة جيفري ساخس، وكانت النتيجة بعد ذلك انهيارا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا على كل الاصعدة.

وكانت المحصلة الطبيعية لهذا الانهيار ان ازيحت روسيا بشكل تام عن الساحة الدولية، ولم يكتف المعشوق الامريكي بعدم مبادلة عاشقته الحب بل انه صار يزدريها الى ابعد الحدود وامام اعين الجميع، فما زالت صورة رئيس وزراء روسيا يفغيني بريماكوف عائدا بطائرته المتوجهة الى واشنطن عشية اندلاع حرب الناتو في كوسوفو تخدش مشاعر جميع الروس. وعلى ما يبدو ان هذه الصورة شكلت بداية تغيير نفسي ونوعي على نطاق واسع لدى النخب السياسية الروسية بصدد السياسة الخارجية لبلادهم، فمنذ ذلك الوقت بدأت موسكو تبحث جديا عن ايجاد نوع من التوافق والتحالف مع دول باتت تقلق من الهيمنة الامريكية العالمية المتزايدة وتتطلع الى توازن جديد.

وكان من الطبيعي ان تلتقي الرغبة الجديدة لموسكو مع الادراك القيادي الصيني الذي صار يلمس ان الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الامريكية، بلغت اشكالا غير مقبولة ولا تتلاءم مع وضع وكرامة امة مثل الصين. وقد تصادف ان تصاعدت التوترات بين الصين والولايات المتحدة مع حادث قصف السفارة الصينية في بلغراد اثناء حرب الناتو على يوغوسلافيا الى الحدود التي جعلت القيادة الصينية امام قناعة ان الارادتين الصينية والامريكية ستتصادمان ولو بعد حين، ثم جاء حادث تصادم الطائرتين الامريكية والصينية فوق السواحل الصينية ليعزز هذه القناعة، التي بدأت تزداد رسوخا مع تزويد واشنطن تايوان بالاسلحة المتطورة وتزايد الانشطة العسكرية الامريكية على مقربة من حدود الصين، وبعد ان اصرت الادارة الامريكية على مشروع الدرع المضاد للصواريخ.

وامام توافق الرغبة لدى كل من بكين وموسكو بضرورة مواجهة احادية الولايات المتحدة جاءت المعاهدة الاخيرة بينهما.. بيد ان السؤال يبقى في ما اذا كانت هذه الشراكة قادرة حقيقة ان تواجه التفوق الامريكي؟

بالطبع وفق المعطيات الراهنة لقدرات امريكا من جانب، وقدرات كل من الصين وروسيا من جانب آخر، يصبح من الصعب على هذه الشراكة ان تحقق هدفها في مواجهة امريكا، لكن مع ذلك علينا ان نتصور ان التفوق وان كان شموليا فهو ليس ابديا.. ومثلما توقع (بول كروخمان) في مقال له في (الفورن افيرز عام 1998) ان التراجع في نمو الاقتصاد الامريكي قادم لا محالة، فان المؤشرات الراهنة تؤكد هذا التقوقع، والاقتصاد الامريكي بات يعاني ضعفا قاعدته عريضة تطول قطاعات انتاجية واستهلاكية عدة. وان ما وصفه (مورتمر جيكرمان) بالاقتصاد المعجزة بات يشهد اليوم اول الانفجارات التي يتوقع لها ان تتوالى، خصوصا ان خفض الفوائد من اجل تشجيع الطلب لا يعد برأي معظم الخبراء الاقتصاديين، هو العلاج، لأن المشكلة في العمق وهي تتعلق بعدم قابلية الاقتصاد الامريكي للاستغناء عن الاستدانة، فهو يحتاج الى ضخ ما بين 400 و500 مليار سنويا لكي يبقى على قيد الحياة. وبسبب ان الاقتصاد الامريكي بلغ نقطة قصوى في تملكه لاموال التوفير العالمية، وهو غير راغب في تسديد الديون في الوقت الذي تعمل فيه الادارة الامريكية على رفع نفقات التسلح من خلال الدرع المضاد للصواريخ، فان عملية تصنيع الانهيار الاقتصادي ستتواصل. على حد تعبير (فردريك كليرمون).

يضاف الى ذلك، ان فجوة بدت بارزة ما بين قوة امريكا ونفوذها.. فاذا كانت امريكا لا تزال القوة العظمى الوحيدة، فان جملة الهزائم الديبلوماسية التي منيت بها في الفترة الاخيرة لجهة عدم اعادة انتخابها في لجنتين للامم المتحدة، وبعد اخفاقها في تمرير مشروع العقوبات «الذكية» على العراق، وفشلها في تهدئة الاوضاع في الشرق الاوسط، لا تنسجم ووضع القوة العظمى الوحيدة، الامر الذي صار يؤشر تراجع نفوذها العالمي ويترك المجال واسعا امام الدول الكبرى الاخرى لمنافستها.

ومثلما كان يتساءل مستشار المانيا الكبير بسمارك عن سبب قدرة فرنسا في مواجهة التفوق العسكري والاقتصادي الالماني بديبلوماسيتها النشطة، فانه بمقدور دول اقل امكانية من حيث القدرات الاقتصادية والعسكرية ان تحد من التفوق الامريكي من خلال الديبلوماسية النشطة. وهذا ما هو متاح لكل من الصين وروسيا، سيما في ظل الظروف الحالية المؤاتية، حيث ان دائرة الحكومات التي ترى مصالحها تتوافق مع الولايات المتحدة، اخذت تضيق باستمرار في العديد من القضايا الدولية، كما ان معظم القوى الاقليمية الكبرى اضحت تعارض وجود الولايات المتحدة في مناطق تسود فيها مصالح تلك الدول. وقد صار من الواضح ان التململ من الهيمنة الامريكية أخذ يتصاعد من الاستياء الى المخالفة، ومن المعارضة الى احتمالات الفعل الجماعي المضاد.

أكثر من ذلك، انه بالرغم من امتلاك امريكا لقدرة متعاظمة على الفعل في الساحة الدولية، فان المقاومة الواضحة تبدو من خلال افتقار الادارة الامريكية لرؤية استراتيجية واضحة في ادارة الشؤون العالمية، وينطلق السلوك الامريكي ازاء العديد من الازمات من موقع رد الفعل. بل ان امريكا كثيرا ما تعاملت مع بعض الازمات على طريقة Take Away. بعبارة اوضح يوم بيوم دون السعي لامتلاك زمام المبادرة. وقد تبدى غياب هذه الرؤية الاستراتيجية في ارتباك السياسة الامريكية ازاء العديد من القضايا في الساحة الدولية منها المسألة العراقية، الوضع الافغاني، التعامل مع روسيا والصين، الاوضاع في الكونغو، احداث البلقان.

والمحصلة الواضحة ان غياب الرؤية الاستراتيجية يصيب القوة الهائلة بالعمى احيانا وبعدم وضوح الرؤية احيانا اخرى بما يضر بها ويدفع بتسارع شديد الى انهيار مرتكزات قوتها، ويترك المجال لدول كبرى وان كانت اقل قوة ومقدرة منها، الى ان تنافسها وتزاحمها على القوة العالمية، اذا اتقنت هذه الدول الكبرى اللعبة وعرفت كيف تستغلها لصالحها.. فهل تنجح بكين وموسكو في تحقيق ذلك؟ سؤال الاجابة عليه مرهونة بالمستقبل.

* كاتب وصحافي عراقي