علاقات «مش» دولية!

TT

الأساس في العلاقات الدولية أنها، كما يشير اسمها، هي علاقات بين دول يحكمها القانون الدولي واتفاقيات بين دول وأعراف دولية، وحين تسيطر تحركات قادة الحركات على المشهد السياسي والإعلامي في منطقة ما من العالم، تصبح العلاقات «مش» دولية، وإنما علاقات دول بحركات، أو علاقات حركة بحركة، وليس في كل حركة بركة كما يقال. وليست هناك منطقة في العالم يذوب فيها الخط الفاصل ما بين الدولة والحركة أكثر من منطقة الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل وإيران وتركيا. منطقة بدا فيها واضحا أن هناك دولا لا يضيرها أن تتدنى من مرتبة الرشد والدولة، إلى المراهقة والثورة والحركة. فإيران، وبعد مرور ثلاثين عاما على الثورة الإسلامية، ما زالت ترى في نفسها أنها حركة وثورة. ثلاثون عاما لم تكن كافية لإيران أن تنتقل فيها من حالة مراهقة الحركة إلى رشد الدولة، لذا فهي تعتمد في تعزيز مكانتها على تقوية علاقاتها بالحركات لا الدول، وما استقبال إيران لخالد مشعل في الأسبوع الفائت إلا تعبير عن حركية النظام لا دوليته.

تنقل مشعل في فضاء الحركات، لذا كانت معظم زياراته إلى ما يمكن تسميته بـ«الدولة ـ الحركة»، على غرار «الدولة ـ الأمة» أو الـ«nation-state». حيث غادر مشعل إيران، ومنها توجه إلى ليبيا والسودان، واستقبل هناك من قبل أكبر قيادات البلدين. خالد مشعل بصفته قائد حركة يشتم تلك الرغبة الدفينة لدى بعض الأنظمة التي تراودها شهوة الحركة المنفلتة على حساب رشد الدولة الصارم والملتزم، لذا إذا تتبعنا خط سيره نجده يتحرك في فضاء الحركات لا في فضاءات الدول، ولا أقول فضائياتها. وفي أحسن تقدير، فإن مشعل يتحرك في الخط الفاصل ما بين الدولة والحركة. الأصل في العلاقات الدولية هي الدول كوحدات تتفاعل في النظام الدولي، ومجموعة قيم وقوانين حاكمة للعبة بين هذه الوحدات (الدول) تتخذ إطارا مؤسساتيا في منظمات إقليمية ودولية، كالأمم المتحدة والجامعة العربية مثلا، وبيئة ومناخ تتحرك فيها هذه الوحدات. وهنا سؤال كبير عن تلك الفجوة أو الفراغ في العلاقات الدولية الذي تركته الدول في منطقتنا حتى بدأت الحركات في ملئه، هل هو فراغ ناتج عن عدم قدرات هذه الدول؟ أم أن مؤسسات العلاقات الدولية والقوانين والأعراف المنظمة لها بدأت في الترهل والتآكل فلم يبق هناك رادع للحركات في أن تهدم ما بقي منها؟

ظني أن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت الاقتصادية لنبذ الخلافات بين الدول العربية، كانت في المقام الأول من منطلق المحافظة على منطق الدولة والعلاقات الدولية ضد ذهنية منطق الحركة والثورة. ورغم أن الموقف السعودي كان متشددا في البداية حول بعض الملفات العالقة بين السعودية وبعض الدول العربية، ورغم أهمية تلك الملفات وحساسيتها بالنسبة للمملكة، إلا أن السعودية تجاوزتها ورجحت عليها أهمية سيادة منطق الدولة في الإقليم الذي بات مهددا وبشكل فعلي من منطق الحركة الذي يعني بالضرورة تراجع دور الدولة. بلا شك أن تتخذ السعودية هذا الإجراء التصالحي، فمعنى ذلك أن منطق الحركة قد وصل لدرجة يصعب السكوت عنها.

المشكلة هي أن لدينا في منظومة الدول العربية، بعض الدول وبعض القيادات ممن يرى في نفسه قائدا لحركة لا لدولة، وأن بعضهم يرى أن التلويح بيده لجماهير ملتهبة الحماس يرضي في داخله غرورا، ففي نظره الدولة إلى زوال والبقاء للزخم الثوري وللحركة. لذا وجدنا بعض الدول العربية تتنازل طواعية عن حقوقها كدولة وتتدنى من سلم العلاقات الدولية إلى العلاقات الـ«مش دولية»، وبالتالي يجب ألا نلوم المجتمع الدولي الذي بدأ ينظر إلى هذه الدول على أنها حركات وليست دولا، يفرض عليها الحصار أحيانا، والحجر على قادتها أحيانا أخرى، أو حتى جرجرة بعضهم إلى المحاكم الدولية، حالة الرئيس البشير هي المثال الأوضح.

ترى هل هناك تفسير لهذا السلوك في منطقتنا؟ لدي تفسير يبدأ من الفرد ثم يتحرك في اتجاه الحركة والدولة، ولدي تفسير آخر يخص خصائص النظام الإقليمي للعلاقات الدولية وكذلك طبيعة الدولة، ولكنني سأبدا بالفرد، لأعود إلى التفسيرين الآخرين في مقالات لاحقة. أعتقد، بلا شك، أن لب المشكلة لدينا هي تلك الرغبة الملحة بأن يعترف بنا، مشكلة الإنسان العربي اليوم هو عدم الاعتراف به كمواطن في دولة أو جزء من مجتمع أو كإنسان ناجح يستحق الاحترام. حياتنا، بداية من البيت إلى المدرسة إلى مكان العمل، تغالبها عقدة نقص الاعتراف، لذا تجدنا نتبنى كل استراتيجية وتكتيك موجود لنظهر في الصورة، أي صورة كانت، في القرية أو في المدينة أو في الحكومة أو في المجتمع، سياستنا كلها يمكن أن نطلق عليها سياسة المظاهر أو «politics of appearance»، نزين بيوتنا من الخارج من أجل الآخر، ونلبس أجمل ثيابنا عندما نخرج من البيت لا في داخله، ونشتري أحدث سيارة وأحدث موبايل، ونبالغ فيما يميزنا عن أبناء أوطاننا، رغم أن الرغبة الطبيعية للإنسان هو التكيف مع المجتمع لا التظاهر عليه برموز القوة والفخامة. ودولنا كأفرادنا تعاني من مركب نقص الاعتراف، فرغم وجود مقاعد لها في الأمم المتحدة، إلا أنها دائما ما تشتهي أن تكون في شوارع منهاتن تحمل لافتات الاحتجاج ضد نظام هم أعضاء فيه.

لابد أن المواطن في كثير من الدول العربية لاحظ تلك الحالة الشاذة والفريدة من بعض قادتنا الذين يكونون في الحكم ويتبنون خطاب المعارضة، فيدبجون الخطب المطولة عن فساد نظام هو نظامهم في المقام الأول، يتحدثون ضد فساد النظام الذين هم على رأسه، لا توجد هذه الظاهرة إلا في العالم العربي، أو في معظمه، حتى نكون منصفين. ما أود أن أقوله هو أن مركب نقص عدم الاعتراف هذا هو الذي يفسر تلك الشهوة لدى بعض دولنا أن تكون في صفوف الحركات لا في مصاف الدول.

وإذا ما نظرنا إلى الحالة الفلسطينية، فرغم كل ما نقوله عن شوقنا لميلاد الدولة الفلسطينية، إلا أن خطاب حركة «حماس»، الذي لم يشر من قريب أو بعيد إلى مسألة هذه الدولة، هو الذي يلقى ترحيبا جماهيريا عربيا، أو على الأقل هذا ما يصوره الإعلام العربي لنا. خالد مشعل في كل ما يقوله، يريد ثورة دائمة وحركة دائمة ونضالا إلى آخر الزمان مهما كانت تكلفته، أما محمود عباس وجماعته، مهما كان تحفظنا عليهم، فهم يريدون أن يدخلوا عالم الدول، ومع ذلك لا يلقون الترحيب الجماهيري الذي تلقاه حركة «حماس».

السؤال بالنسبة للعرب اليوم: هل ينتصر في فلسطين منطق الدولة على منطق الحركة، وهل تتبنى الدول العربية جماعة الدولة لا جماعة الحركة؟ من هنا أنظر إلى دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز في تغليب منطق الدولة على منطق الحركة، على أنها البداية السليمة للانتقال من مراهقة الحركة إلى رشد الدولة، ومن العلاقات الـ«مش» دولية إلى العلاقات الدولية، وللحديث بقية.