فرانكشتاين الشرق الأوسط الجديد!

TT

ظهرت في ردود الأفعال العربية والإقليمية والدولية على نتائج الانتخابات الإسرائيلية ومجرياتها حقائق واضحة للعيان عن التطرف العنصري الذي يمسك بزمام الحياة السياسية في إسرائيل، خاصة أن هذه الانتخابات أفرزت تعابير جلية عن الأسس الأيديولوجية لهذا الكيان وعن حقيقة ماضيه وحاضره ومستقبله، والتي يمكن تلخيصها بالعداء المتأصل سياسيا وبنيويا للعرب، وسيطرة عقيدة إبادتهم في فلسطين على استراتيجياته وسياساته، كما يوضح ذلك العمل المستمر لكافة مكونات هذا الكيان، ومنذ ستين عاما على قتلهم بالمجازر المتواصلة، وتهجيرهم قسرا، وحرق مزارعهم، وهدم مساجدهم، وقصف منازلهم، وتجريف أراضيهم، وتهويد قدسهم، وسد سبل العيش في وجههم، ومنعهم من إقامة دولتهم الوطنية. وما حدث لأهل غزة في العدوان الإسرائيلي الوحشي الأخير من محرقة قتل وجرح فيها الآلاف من الأطفال والأمهات والمدنيين العزل، لم يختلف عن حروب إسرائيل الأخرى، إلا بتطور الأسلحة التي تزودها بها الحكومات الديمقراطية الغربية «المتحضرة»، وبتطور أساليب العدوان عن سابقاته، وخاصة في مجال التعتيم الإعلامي، والتغطية السياسية، وحرمان الشعب الفلسطيني من الدعم العربي الرسمي. حصل كل ذلك مسبقا للعرب في النقب والجليل والساحل الفلسطيني، حيث تم تدمير قراهم، وحرق محاصيلهم الزراعية، وتسميم آبارهم، وتجريف أراضيهم، ومازال من بقي هناك ومن لجأ إلى غزة يعانون من عنصرية وحشية لا تتردد أن تعلن أمام شاشات التلفزيون على لسان ليبرمان مثلا، وهو أحد القادة الرئيسيين للكيانات السياسية الصهيونية حاليا، أنهم «يجب أن يستخدموا القنبلة الذرية لإبادة عرب غزة جميعا» كما استخدمت الولايات المتحدة تلك القنبلة اللعينة ضد المدن اليابانية وأبادت بها مئات الألوف من المدنيين العزل.

ومن اللافت للنظر، القلق الذي تبديه بعض الأطراف السياسية في الغرب، من الولايات المتحدة إلى أوروبا، من نتائج هذه الانتخابات، وتردد الساسة الغربيين في استخدام أي تعبير داعم لإسرائيل قد يجعل فرانكشتاين، الذي عملوا على اختراعه وتصنيعه وتسليحه طوال ستة عقود، أكثر خطورة مما هو عليه اليوم، فعبّروا عموما عن «التزامهم بأمن إسرائيل» من دون التزامهم طبعا بأمن المدنيين الفلسطينيين العزل، خاصة أن بعض العرب قد تخلوا عن التزاماتهم هذه، كما رددوا مقولاتهم المكررة عن حق «إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وبالطبع من دون أي إشارة لحق العرب أيضا في الدفاع عن أنفسهم، حتى وإن كانوا يئنون تحت وطأة آثام احتلال عنصري استيطاني بغيض. وعبر البعض من حلفاء إسرائيل الغربيين عن أملهم أن تفسر إسرائيل «الأسباب التي دعتها للقيام بما قامت به في غزة» وكأن فرض الحصار على مليون ونصف مليون مدني فلسطيني ومنع الغذاء والدواء والطاقة والماء عنهم وقصف منازلهم بأحدث الصواريخ، أمر مقبول أو يمكن تبريره! ولكن ما يميز هذه المرحلة، خاصة بعد عدوان عام 2006، والعدوان على غزة، هو أن العالم ليس قادرا بعد اليوم على تجاهل عدوانية هذا الكيان وعنصريته ودمويته. لقد أصبحت الحقائق واضحة لكل من يريد في الغرب الديمقراطي أن يرى، أما من يريد أن يختبئ وراء فرانكشتاين صنعه بيديه خوفا من انفلاته من عقاله، فسوف يتيقن، عاجلا أم آجلا، أن الخنوع والنفاق والمداراة ونكران الوقائع، الذي يتسم به السياسيون والإعلاميون الغربيون عندما يتعلق الأمر بجرائم الإبادة الإسرائيلية ضد العرب، لن يقود إلا إلى المزيد من وحشيته وخطره الذي لن يتوقف عند العرب فقط، ولكنه سيمتد ليهدد العالم بأسره.

ورغم تقصير العالم الديمقراطي في محاسبة هذا الكيان على جرائمه الوحشية ضد المدنيين العزل، واختراع قضايا تهريب الأسلحة وغيرها لتبرير حرمان المدنيين العرب من الغذاء والدواء والطاقة، أو الحديث عن صواريخ حماس لتبرير جرائم الإبادة للسكان المدنيين، فإن شعوب العالم قد رأت وتفاعلت وعبرت عما يجول في ضميرها من انتصار للحرية والعدالة في فلسطين، ورفض للوحشية الفرنكشتانية التي بلغت أشدها في الحرب التي شنتها الكيانات السياسية المتنافسة على غزة. فللمرة الأولى في تاريخ هذا الكيان ترتفع أصوات في أرجاء المعمورة تطالب بمحاسبة مجرمي الحرب من قادة سياسيين وضباط وجنود عما ارتكبوه من جرائم إبادة ضد عرب غزة، وتعقد الندوات، ويتفاعل رجال القانون عبر الحدود لإعداد القضايا والدعاوى لتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى القضاء. وللمرة الأولى منذ ستين عاما يوجه زعيم دولة اللوم لجمهور يصفق لرئيس هذا الكيان لأنه رئيس يمارس كيانه قتل الأطفال والأمهات والمدنيين. وللمرة الأولى منذ ثلاثين عاما تتسابق قوى ودول في أصقاع مختلفة لمقاطعة هذا الكيان، وطرد سفرائه، ورفض التعامل معه، هذه المؤشرات تشكل نقلة نوعية في تاريخ الصراع ضد آخر نظام استعماري، يجب العمل على تعزيزها في المستقبل، إلى أن تتحقق العدالة على أرض فلسطين، وإلى أن يعم السلام والأمن في الشرق الأوسط الذي لم يشهد سوى حمام الدم الإسرائيلي اليومي المتواصل طوال ستين عاما ونيف، وإلى أن ينعم الفلسطينيون بالحرية والديمقراطية التي حرمتهم منهما «الديمقراطيات الغربية المتحضرة» و«واحاتهم الديمقراطية» بالحروب والمجازر والتهجير.

وتشير أرقام الوزارة إلى أن حجم البناء في المستوطنات ارتفع خلال العام المنصرم لوحده بنسبة 60%، وأن مشاريع البناء في القدس الشرقية تمت بالأساس بعد مؤتمر أنابوليس الذي اتفق فيه على بدء مفاوضات التسوية الدائمة للصراع. كان عدد المشاريع قبل أنابوليس (نوفمبر (تشرين الثاني) 2007) فقط 47 وحدة سكنية، ولكن في الشهر الأخير من السنة كان هناك 747 مشروعا للبناء الاستيطاني في المدينة. هذه فقط نقطة من مئات الشواهد التي تبرهن دون أدنى شك أن ما يقوله ليبرمان وأمثاله هو ما فعله أسلافه من حكام إسرائيل طوال ستين عاما من حرب إبادة وتهجير وتدمير متواصلة ضد عرب فلسطين، وحروب عدوانية متواصلة ضد الأقطار العربية المجاورة، وضغوط سياسية ومخابراتية على الحكومات العربية لخنق إرادتها السياسية، وفرض الخنوع على الموقف الغربي الرسمي عبر أساليب هذا الإخطبوط المعروف باللوبي، الأمر الذي لن يزيد فرانكشتاين الدموي هذا إلا دموية وعنصرية ووحشية.

إذا كان الفارق في العدوان الأخير هو أن رئيس هذا الكيان يستطيع أن يتحدث عن «موافقة أطراف عربية على ما ارتكبته إسرائيل بحق أطفال فلسطين» من دون أن يردّ عليه أي طرف بالتكذيب، فإن هذا دليل آخر على أن أساليب هذا الكيان لم ولن تأخذ في الحسبان تغيير إجراءاتها العنصرية القمعية، بل ابتزاز البعض، وإسكات البعض الآخر، وشراء صمت البعض، وفرض الصمت على آخرين من خلال إحياء قصص ذات علاقة بالهولوكست كلما اشتدت وتيرة جرائمهم ضد المدنيين العزل. إذا كانت الضجة اليوم حول التطرف الدموي للأحزاب الإسرائيلية التي فازت بالانتخابات والقلق من عنصريتها العدوانية، فما هو الشيء المختلف الذي ارتكبته طوال ستين عاما أحزاب ما يسمى باليسار في إسرائيل بالشعب الفلسطيني؟ وما الفرق الجوهري بين تعامل اليمين واليسار الصهيوني مع حق عرب فلسطين بالحرية؟

وقد ظهر الوجه الحقيقي لفرانكشتاين في حرب إسرائيل الأخيرة على المدنيين العزل في غزة على شاشات وصحافة العالم، فهل يجوز أن تختبئ القوى الغربية المسؤولة اليوم وراء ذرائع «أمن إسرائيل» و«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»؟ كي تترك هذه التركيبة العدوانية منفلتة من عقالها تمارس أبشع أنواع الإبادة على شعب أعزل. إن ما يحتاجه الفلسطينيون والمنطقة اليوم ليس مؤتمر المانحين التي بينت المؤتمرات التي سبقته زيفها، بل نحتاج لمؤتمر العادلين الأحرار الذين يقفون وقفة فعالة لردع هذا الإرهاب الصهيوني الذي يمارس أبشع أنواع الإبادة بحق الشعب الفلسطيني طوال ستين عاما متواصلة. والأحاديث عن ضرورة الالتزام بالسلام سوف تمنح قوى الاستيطان العدوانية وقتا إضافيا أطول لحرمان الفلسطينيين من المزيد من الأرض والحرية، وتمنحها فرصة أخرى لابتلاع المزيد من حقوق وأراضي ومياه شعب فلسطين الأعزل، ولن تقود مثل هذه التصريحات المكرورة إلى سلام حقيقي مع من يؤمنون بإبادة الفلسطينيين بالقنبلة الذرية وبالفسفور الأبيض وتهجيرهم ويمارسون ذلك منذ عقود. جديد الانتخابات الإسرائيلية قديم جدا، عرفه وخبره الشعب الفلسطيني في كل مدنه وقراه. الجديد الوحيد في الشرق الأوسط الذي ربما هو ما عنته رايس بالجديد، هو انفلات وحشية فرانكشتاين الشرق الأوسط في عدوان جديد ضد ضحية قديمة أو جديدة، والأمل في ردعه هو تكاتف كل أحرار العالم لكسر شوكة هذا الوحش الذي اخترعته الديمقراطيات الغربية قبل أن ينقل تهديده المعتاد للفلسطينيين والعرب إلى تهديد الأمن والسلم الإقليمي، بل والدولي أيضا.

www.bouthainashaaban.com