إيران والشرق الأوسط

TT

عندما يرى الإنسان متناقضات الأمور في الشرق الأوسط، لابد أن يتساءل عن مسبباتها. ومن أهم التساؤلات: ما سر انتشار النفوذ الإيراني في هذه المنطقة؟ وما هي مقومات هذا النفوذ؟

من أهم أركان النفوذ في أي مجال، لابد من تواجد استراتيجية مصحوبة بآليات للتنفيذ، بهذه المقدمة سوف أتطرق للمحاور الرئيسية للاستراتيجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط وأسباب تفوقها، وما هي الاستراتيجية التي يجب استخدامها لتقليص انتشار هذا النفوذ؟ وفي مقدمتها استراتيجية النفوذ العقائدي، وهنا أتطرق أولا للمحاور الرئيسية لهذا النفوذ العقائدي، وأولها العمل على تجذر مرجعية (قم) في الجسد الشيعي. كان هذا واضحاً لمؤسس هذا المحور – المرجع الأعلى للثورة الإسلامية في إيران (الخميني) – أن يقزم جميع المرجعيات في الطائفة الشيعية وخاصة مرجعية النجف وذلك عن طريق استحداث ولاية الفقيه والتي هي بمعنى آخر تنصيب نفسه على عرش بابوية المذهب الشيعي، واتخاذه فاتيكانية (قم) لهذا المذهب الإسلامي المهم، وانقسم الشيعة في ذلك بين مؤيد لولاية الفقيه وآخر معارض. ومن أهم آليات جذب أنصاره، تكوين الأحزاب لنشر فكرته في الجسد العربي حاملا راية الدفاع عن أهل البيت – أئمة المذهب السني – في حملة نشر الثورة الإسلامية. أدرك من أتى بعد الخميني أن من أهم عوامل نجاح فكرتهم هي إضعاف أهم المراجع السنية المتبلورة في مكانة المملكة العربية السعودية بحضنها للحرمين الشريفين ومكانة الأزهر في مصر، بهذا بدأ التركيز على استخدام مسمى (الوهابية) لإيهام المسلمين بأن (الوهابية) مذهب مستقل عن أهل السنة والجماعة مستغلا اسم إصلاحي ينتمي للمذهب الحنبلي والذي لم يشط عن أهل السنة مقدار سطر، وربط الأزهر بالسياسة المصرية – التي يكنّ لها العداء لموقفها من شاه إيران – غير المعادية للغرب. وقد لاقت هذه الاستراتيجية رواجاً في الجسم العربي، لمواقف الغرب - وخاصة أميركا – غير المشرفة من القضية الفلسطينية والانحياز لإسرائيل، وقد أدخل النظام الإيراني الأردن في حقيبة سياسة التعامل مع مصر لنفس الأسباب التي ذكرتها، بالإضافة إلى موقفها من حركة حماس ومعارضتها للتدخلات الحزبية في فلسطين المحتلة. وارتكزت آليات التنفيذ للسياسة الإيرانية على تكوين وتجهيز وتمويل الأحزاب، شيعية كانت أم سنية، وهذا تبلور في تكوين وتجهيز وتمويل حزب الله وتجهيز وتمويل حركة حماس واستخدام «القاعدة» بجعلها ملاذاً لهم وتمويلهم في أراضيها المتاخمة لباكستان وأفغانستان، مما جعلها في أمان من عمليات «القاعدة». وجدت إيران أن هناك صعوبة لإدخال نفوذها في الجسد العربي بدون تحالف استراتيجي بينها وبين دولة عربية، وقد وجدت إيران ضالتها في تحالفها الاستراتيجي مع سورية في وقت الرئيس الراحل حافظ الأسد، وقد كان موقف سورية من حرب الخليج الأولى (بين العراق وإيران) عاملاً مهماً لهذا الاختيار، لرفض سورية في ذلك الوقت الانحياز لجانب العراق، وقد كان التحالف الاستراتيجي بين الدولتين في ذلك الوقت مسخراً لمصلحة سورية أولا، وإيران ثانياً، وتبلور ذلك في افتتاح فرع لحزب الله في لبنان مسيَّر من قبل سورية ومجهز وممول من قبل إيران. تطور هذا التحالف الاستراتيجي إلى شراكة اقتصادية سياسية لتجذير النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وتطور هذا التحالف في عهد الرئيس بشار الأسد إلى انعكاس خطير في أولويات المصالح القومية، حيث أتت إيران أولا وسورية ثانياً، مما أسفر عن فتح آفاق واسعة للسيطرة الإيرانية في المنطقة والتي تبلورت بمرجعية حزب الله علنياً لولاية الفقيه ووضعها شرطاً أساسياً للانضمام لهذا الحزب.

ومن إفرازات الشراكة الإيرانية السورية اتخاذ قيادة حركة حماس من سورية مقراً لها بعد رفض الأردن ذلك، مما أدى إلى احتضان إيران لحماس في التجهيز والتمويل المباشر، وقد بدا ذلك جلياً من خلال تردد بعض قيادات حركة حماس على إيران في الآونة الأخيرة. ومن الآليات السرية لإيران والتي عززت من خلالها من تغلغلها في الشرق الأوسط ترابط كثير من المصالح الإيرانية بالإسرائيلية، كتفريق العرب وتقسيم الفلسطينيين وجعل المنطقة في حالة عدم استقرار، ليؤدي ذلك إلى شرعية وجود أحزابها المباشرة وغير المباشرة، وقد تجلى ذلك أيضاً في دعم حماس لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية وعدم التعرض للموقف السوري فيما يخص الجولان وعدم السماح لأي جهة إيرانية بالمشاركة الفعلية لنصرة الفلسطينيين في محنة غزة الأخيرة، وذلك لمنع التصادم مع إسرائيل مباشرة والاكتفاء بغطاء إعلامي معادٍ لإسرائيل. وقد يقول البعض: ماذا عن حرب لبنان وما فعله حزب الله بإسرائيل؟ والأجوبة على ذلك هي: دعونا ننظر لنتائج تلك الحرب، وأولها ارتفاع نسبة التعاطف والانسياق مع حزب الله، وثانيها إضعاف الحكومة اللبنانية الموالية للدول العربية، وثالثها تثبيت أن هناك خطراً على إسرائيل لتتمكن الأخيرة من عمل ما تشاء لحماية مصالحها، وجميع ما ذكرت يصب في مصلحة إسرائيل. وقد استغلت إيران كذلك ضحالة ثقافة المنطقة العربية التي استخدمتها كالإسفنج بامتصاصها للمعلومات المضللة، وكانت ضحالة الثقافة الأميركية وجهلها للمنطقة سبباً في تبني بعض سياسييها المفهوم الخاطئ للوهابية وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.

بعد هذا الإيجاز يأتي سؤال المليون، وهو ما العمل لمواجهة هذا التهديد الحقيقي؟ والجواب عليه – ومن وجهة نظري – هو وضع استراتيجية مضادة بآلية يمكن العمل بها، ومنها:

إستراتيجية الحد من النفوذ العقائدي الإيراني: الآلية المثلى لذلك هي تعزيز ما قزمته إيران والعمل على إنشاء مرجعيات شيعية أخرى عربية لتتزامل مع مرجعية النجف في المناطق التي يتواجد بها المذهب الشيعي المنافي لولاية الفقيه، والتي لها مقوماتها القومية العربية غير التابعة للقومية الفارسية، خاصة أن أهل البيت (رضي الله عنهم) عرب وليسوا فُرساً. والآلية الأخرى هي التغيير في مناهج التعليم المبني على التثقيف بدلا من التلقين في مدارسنا ليكون المانع الحقيقي لخلط الحقائق بالوضعيات السياسية. والآلية المهمة لمجابهة هذا المد الفارسي هي (الاحتواء) والذي كان المغفور له الملك عبد العزيز يعرف فنه جيداً (The Art of Containment ) حينما وجد هذا الكيان الذي كان متشرذماً ومحارباً لبعضه البعض، وعلم المؤسس بأن الاحتواء أمضى من السيف، فوحّده بالاحتواء، وقد شعرت باستخدام هذا الفن مجدداً في كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز في مجلس القمة بالكويت. أخيراً يجب على سورية أن تلحم الجرح العربي بالانضمام المتكامل له وزراعة الشراكة الاقتصادية والسياسية لتحرر نفسها أولا من النفوذ الفارسي الذي أضرها كثيراً على المدى البعيد حتى ولو استفادت منه على المدى القريب.

بهذا يمكنني أن أرى يوماً جديداً نقرأ فيه تاريخ الأيام القاحلة التي ألمّت بنا.

* كاتب سعودي

[email protected]